فتاوى الزكاة
المقصود بالزكاة لغة وشرعاً
السؤال (111): فضيلة الشيخ ، ما المقصود بالزكاة في اللغة، وفي الشرع؟ وما العلاقة بين المفهومين؟
الجواب : الزكاة في اللغة : الزيادة والنماء، فكل شيء زاد عدداً ، أو نما حجماً فإنه يقال : زكا. فيقال : زكا الزرع ، إذا نما وطال.
وأما في الشرع : فهي التعبد لله تعالى بإخراج قدر واجب شرعاً في أموال مخصومة لطائفة أو جهة مخصوصة.
والعلاقة بين المعنى اللغوي والمعنى الشرعي، أن الزكاة وإن كان ظاهرها النقص، نقص كمية المال ، لكن آثارها زيادة المال، زيادة المال بركة ، وزيادة المال كمية، فإن الإنسان قد يفتح الله له من أبواب الرزق ما لا يخطر على باله إذا قام بما أوجب الله عليه في ماله ، قال الله تعالى : (وَمَا آتَيْتُمْ مِنْ رِباً لِيَرْبُوَ فِي أَمْوَالِ النَّاسِ فَلا يَرْبُو عِنْدَ اللَّهِ وَمَا آتَيْتُمْ مِنْ زَكَاةٍ تُرِيدُونَ وَجْهَ اللَّهِ فَأُولَئِكَ هُمُ الْمُضْعِفُونَ) (الروم:39)، وقال تعالى : ( وَمَا أَنْفَقْتُمْ مِنْ شَيْءٍ فَهُوَ يُخْلِفُهُ وَهُوَ خَيْرُ الرَّازِقِينَ)(سـبأ: 39) ، يخلفه : أي يأتي بخلفه وبدله.
وقال النبي صلى الله عليه وسلم : "ما نقصت صدقة من مال"(129). وهذا أمر مشاهد ، فإن الموفقين لأداء ما يجب عليهم في أموالهم يجدون بركة فيما ينفقونه، وبركة فيما يبقى عندهم ، وربما يفتح الله لهم أبواب رزق يشاهدونها رأي العين ، بسبب إنفاقهم أموالهم في سبيل الله .
ولهذا كانت الزكاة في الشرع ملاقية للزكاة في اللغة من حيث النماء والزيادة.
ثم إن في الزكاة أيضاً زيادة أخرى ، وهي زيادة الإيمان في قلب صاحبها، فإن الزكاة من الأعمال الصالحة، والأعمال الصالحة تزيد في إيمان الرجل ، لأن مذهب أهل السنة والجماعة أن الأعمال الصالحة من الإيمان ، وأن الإيمان يزداد بزيادتها ، وينقص بنقصها، وهي أيضاً تزيد الإنسان في خلقه ، فإنها بذل وعطاء، والبذل والعطاء يدل على الكرم والسخاء، والكرم والسخاء لا شك أنه خلق فاضل كريم ، بل إن له آثاراً بالغة في انشراح الصدر، ونور القلب ، وراحته، ومن أراد أن يطلع على ذلك فليجرب الإنفاق ، يجد الآثار الحميدة التي تحصل له بهذا الإنفاق، ولا سيما فيما إذا كان الإنفاق واجباً مؤكداً كالزكاة، فإن الزكاة أحد أركان الإسلام ومبانيه العظام، وهي التي تأتي كثيراً مقرونة بالصلاة التي هي عمود الإسلام ، وهي في الحقيقة محك تبين كون الإنسان محبا لما عند الله عز وجل ، لأن المال محبوب إلى النفوس ، وبذل المحبوب لا يمكن أن يكون إلا من أجل محبوب يؤمن به الإنسان وبحصوله، ويكون هذا المحبوب أيضاً أحب مما بذله.
ومصالح الزكاة، وزيادة الإيمان بها ، وزيادة الأعمال ، وغير ذلك أمر معلوم ، يحصل بالتأمل فيه أكثر مما ذكرنا الآن.
آثار الزكاة على المجتمع والاقتصاد
السؤال (112): فضيلة الشيخ، ذكرتم تعريف الزكاة أو مفهوم الزكاة اللغوي والشرعي، والعلاقة بينهما ، ثم تحدثتم أيضاً عن الآثار التي تنعكس على الفرد، لكن أيضاً مادمنا عرفنا الآثار التي تنعكس على الفرد، فما هي الآثار التي تنعكس على المجتمع، وعلى الاقتصاد الإسلامي أيضاً؟
الجواب: آثار الزكاة على المجتمع وعلى الاقتصاد الإسلامي ظاهرة أيضاً، فإن فيها من مواساة الفقراء والقيام بمصالح العامة ما هو معلوم ظاهر من مصارف هذه الزكاة ، فإن الله سبحانه وتعالى قال في مصارف هذه الزكاة: (إِنَّمَا الصَّدَقَاتُ لِلْفُقَرَاءِ وَالْمَسَاكِينِ وَالْعَامِلِينَ عَلَيْهَا وَالْمُؤَلَّفَةِ قُلُوبُهُمْ وَفِي الرِّقَابِ وَالْغَارِمِينَ وَفِي سَبِيلِ اللَّهِ وَابْنِ السَّبِيلِ) (التوبة:60) .
وهؤلاء الأصناف الثمانية منهم من يأخذها لدفع حاجته ، ومنهم من يأخذها لحاجة المسلمين إليه، فالفقراء والمساكين والغارمون لأنفسهم، هؤلاء يأخذون لحاجتهم، وكذلك ابن السبيل والرقاب، ومنهم من يأخذ لحاجة الناس إليه، كالغارم لإصلاح ذات البين ، والعاملين عليها والمجاهدين في سبيل الله.
فإذا عرفنا أن توزيع الزكاة على هذه الأصناف يحصل بها دفع الحاجة الخاصة لمن يعطاها ، ويحصل بها دفع الحاجة العامة للمسلمين، عرفنا مدى نفعها للمجتمع.
وفي الاقتصاد تتوزع الثروات بين الأغنياء والفقراء ، بحيث يؤخذ من أموال الأغنياء هذا القدر ليصرف إلى الفقراء، ففيه توزيع للثروة حتى لا يحدث التضخم من جانب والبؤس والفقر من جانب آخر.
وفيها أيضاً من صلاح المجتمع : ائتلاف القلوب ، فإن الفقراء إذا رأوا من الأغنياء أنهم يمدونهم بالمال، ويتصدقون عليهم بهذه الزكاة التي لا يجدون فيها منة عليهم ، لأنها مفروضة عليهم من قبل الله ، فإنهم بلا شك يحبون الأغنياء ويألفونهم ويرجون ما أمرهم الله به من الإنفاق والبذل، بخلاف ما إذا شح الأغنياء بالزكاة وبخلوا بها واستأثروا بالمال ، فإن ذلك قد يولد العداوة والضغينة في قلوب الفقراء ، ويشير إلى هذا ختم الآيات الكريمة التي فيها بيان مصارف الزكاة بقوله تعالى : ( فَرِيضَةً مِنَ اللَّهِ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ)(التوبة: 60).
شروط وجوب الزكاة
السؤال (113): فضيلة الشيخ ، حبذا لو عرفنا شروط وجوب الزكاة ؟
الجواب : شروط وجوب الزكاة : الإسلام، والحرية ، وملك النصاب ، واستقراره، ومضي الحول ، إلا في المعشرات .
فأما الإسلام : فإن الكافر لا تجب عليه الزكاة ، ولا تقبل منه لو دفعها باسم الزكاة، لقول الله تعالى : (وَمَا مَنَعَهُمْ أَنْ تُقْبَلَ مِنْهُمْ نَفَقَاتُهُمْ إِلَّا أَنَّهُمْ كَفَرُوا بِاللَّهِ وَبِرَسُولِهِ وَلا يَأْتُونَ الصَّلاةَ إِلَّا وَهُمْ كُسَالَى وَلا يُنْفِقُونَ إِلَّا وَهُمْ كَارِهُونَ) (التوبة:54)الآية .
ولكن ليس معنى قولنا إنها لا تجب على الكافر ولا تصح منه ولا تقبل منه، أنه معفى عنها في الآخرة ، بل إنه يعاقب عليها ، لقوله تعالى : (كُلُّ نَفْسٍ بِمَا كَسَبَتْ رَهِينَةٌ) (38) (إِلَّا أَصْحَابَ الْيَمِينِ) (39) (فِي جَنَّاتٍ يَتَسَاءَلُونَ) (40) (عَنِ الْمُجْرِمِينَ) (41) (مَا سَلَكَكُمْ فِي سَقَرَ) (42) (قَالُوا لَمْ نَكُ مِنَ الْمُصَلِّينَ) (43) (وَلَمْ نَكُ نُطْعِمُ الْمِسْكِينَ) (44) (وَكُنَّا نَخُوضُ مَعَ الْخَائِضِينَ) (45) (وَكُنَّا نُكَذِّبُ بِيَوْمِ الدِّينِ) (46) (حَتَّى أَتَانَا الْيَقِينُ) (المدثر38-47) ، وهذا يدل على أن الكفار يعذبون على إخلالهم بفروع الإسلام ، وهو كذلك.
وأما الحرية : فلأن المملوك لا مال له ، إذ إن ماله لسيده، لقول النبي صلى الله عليه وسلم "من باع عبداً له مال ، فماله لبائعه إلا أن يشترط المبتاع"(130). فهو إذن غير مالك للمال حتى تجب عليه الزكاة، وإذا قدر أنه أي العبد ملك بالتمليك، فإن ملكه في النهاية يعود إلى سيده، لأن سيده له أن يأخذ ما بيده، وعلى هذا ففي ملكه نقص ، ليس مستقراً استقرار أملاك الأحرار.
وأما ملك النصاب: فمعناه أن يكون عند الإنسان مال يبلغ النصاب الذي قدره الشرع ، وهو يختلف باختلاف الأموال ، فإذا لم يكن عند الإنسان نصاب فإنه لا زكاة عليه ، لأن ماله قليل لا يحتمل المواساة ، والنصاب يختلف باختلاف الأموال، ففي المواشي الأنصبة فيها مقدرة ابتداء وانتهاء ، وفي غيرها الأنصبة مقدرة فيها ابتداء وما زاد فبحسابه.
وأما مضي الحول : فلأن إيجاب الزكاة في أقل من الحول يستلزم الإجحاف بالأغنياء ، وإيجابها فيما فوق الحول يستلزم الضرر في حق الفقراء، فكان من حكمة الشرع أن يقدر لها زمناً معيناً تجب فيه وهو الحول ، وفي ربط ذلك بالحول توازن بين حق الأغنياء وحق أهل الزكاة ، وعلى هذا فلو مات الإنسان مثلاً أو تلف المال قبل تمام الحول سقطت الزكاة، إلا أنه يستثنى من تمام الحول ثلاثة أشياء : ربح التجارة ، ونتاج السائمة ، والمعشرات.
أما ربح التجارة : فإن حوله حول أصله ، وأما نتاج السائمة : فحول النتاج حول الأمهات، وأما المعشرات فحولها تحصيلها أي وقت تحصيلها مثال ذلك في الربح : أن يشتري الإنسان سلعة بعشرة آلاف ريال، ثم قبل تمام حول الزكاة بشهر تزيد هذه السلعة أو تربح نصف الثمن الذي اشتراها به ، فيجب عليه زكاة رأس مال وزكاة ربح وإن لم يتم للربح حول ، لأنه فرع ، والفرع يتبع الأصل .
وأما النتاج : فمثل أن يكون عند الإنسان من البهائم نصاب ، ثم في أثناء الحول يتوالد هذا النصاب حتى يبلغ نصابين ، فيجب عليه الزكاة للنصاب الذي حصل بالنتاج وإن لم يتم عليه الحول ، لأن النتاج فرع فيتبع الأصل.
وأما المعشرات : فحولها حين أخذها مثل الحبوب والثمار، فإن الثمار في النخل مثلاً لا يتم عليه الحول حتى يجذّ ، فتجب الزكاة عند جذه، وكذلك الزرع يزرع ويحصد قبل أن يتم عليه الحول ، فتجب عليه الزكاة عند حصاده، لقول الله تعالى : ( وَآتُوا حَقَّهُ يَوْمَ حَصَادِهِ )(الأنعام: 141).
فهذه الأشياء الثلاثة تستثنى من قولنا إنه يشترط لوجوب الزكاة تمام الحول.
مال المملوك هل يعفى من الزكاة
السؤال (114): فضيلة الشيخ، ذكرتم من شروط وجوب الزكاة وعددتم منها أن يكون مالك المال حراً ، وتحدثتم عن مال المملوك وأن المملوك لا يؤدي أو لا يجب عليه زكاة ، لأن المال مال مالكه ، لكن : هل يعفى المال من التزكية أم يدفع المالك من المال؟
الجواب : زكاة المال الذي عند المملوك على مالكه، لأنه هو مالك المال كما أسلفنا من قول الرسول عليه الصلاة والسلام : "من باع عبداً له مال فماله للذي باعه إلا أن يشترط المبتاع"(131) ، وعلى هذا فتكون الزكاة على مالك المال، وليس على المملوك منها شيء ، ولا يمكن أن تسقط الزكاة عن هذا المال.
الأصناف التي تجب فيها الزكاة ومقدار كل نوع
السؤال (115): فضيلة الشيخ ، ما هي الأموال التي تجب فيها الزكاة ، ومقدار الزكاة في كل نوع منها؟
الجواب : الأموال التي تجب فيها الزكاة هي :
أولاً : الذهب والفضة ، والزكاة فيهما واجبة بالإجماع من حيث الجملة ، لقوله تعالى : (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّ كَثِيراً مِنَ الْأَحْبَارِ وَالرُّهْبَانِ لَيَأْكُلُونَ أَمْوَالَ النَّاسِ بِالْبَاطِلِ وَيَصُدُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ وَالَّذِينَ يَكْنِزُونَ الذَّهَبَ وَالْفِضَّةَ وَلا يُنْفِقُونَهَا فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَبَشِّرْهُمْ بِعَذَابٍ أَلِيمٍ) (34) (يَوْمَ يُحْمَى عَلَيْهَا فِي نَارِ جَهَنَّمَ فَتُكْوَى بِهَا جِبَاهُهُمْ وَجُنُوبُهُمْ وَظُهُورُهُمْ هَذَا مَا كَنَزْتُمْ لانْفُسِكُمْ فَذُوقُوا مَا كُنْتُمْ تَكْنِزُونَ) (التوبة:34-35) .
وكنز الذهب والفضة هو ألا يخرج الإنسان ما أوجب الله عليه فيه من زكاة أو غيرها، وإن كان ظاهراً على سطح الأرض، وإذا أخذ الإنسان ما يجب لله فيه من الزكاة وغيرها فهو غير كنز وإن دفن في الأرض ، ولقول النبي صلى الله عليه وسلم فيما رواه مسلم من حديث أبي هريرة : " ما من صاحب ذهب ولا فضة لا يؤدي منها حقها إلا إذا كان يوم القيامة صفحت له صفائح من نار، وأحمي عليها في نار جهنم ، فيكوى بها جنبه وجبينه وظهره ، كلما بردت أعيدت له، في يوم كان مقداره خمسين ألف سنة، حتى يقضى بين العباد، فيرى سبيله إما إلى الجنة وإما إلى النار(132).
والزكاة في الذهب والفضة واجبة على أي حال كان ، سواء كانت دراهم من الفضة ودنانير من الذهب ، أو كانت تبراً أي قطعاً من الذهب أو كانت قطعاً من الفضة، أو كانت حلياً يستعمل أو لا يستعمل، لعموم الأدلة الواردة في ذلك ، ولقول النبي صلى الله عليه وسلم في خصوص الحلي حين أتته امرأة معها ابنة لها ، وفي يد ابنتها مسكتان غليظتان من ذهب، فقال لها رسول الله صلى الله عليه وسلم : "أتؤدين زكاة هذا ؟" قالت : لا . قال : " أيسرك أن يسورك الله بهما سوارين من نار". فخلعتهما وألقتهما إلى النبي صلى الله عليه وسلم ، وقالت : هما لله ورسوله(133). وهذا نص صريح في وجوب الزكاة في الحلي ولو كان ملبوساً . وإنما وجه النبي صلى الله عليه وسلم الخطاب إلى أم البنت لأنها هي ولية أمرها.
وهذه المسألة فيها خلاف بين العلماء أعني مسألة الحلي ولكن الراجح ما قلناه، لأن الأحاديث عامة ، والأحاديث الخاصة فيها جيدة ، بل صححها بعضهم ، ولا شك أنها تقوم بها الحجة، لأنه يشهد بعضها لبعض، والأصل وجوب الزكاة في الذهب والفضة حتى يقوم دليل على التخصيص.
والواجب في الذهب والفضة ربع العشر، أي واحد من أربعين، وطريقة استخراج ذلك أن تقسم ما عندك على أربعين ، فما خرج من القسمة فهو الزكاة ، فإذا كان عند الإنسان أربعون ألفاً من الفضة ، أي أربعون ألف درهم ، فليقسم الأربعين على أربعين ، يخرج واحد فهو الزكاة.
وكذلك لو كان عنده أربعون ديناراً ، أن يقسم الأربعين على أربعين يخرج واحد أي دينار واحد فهو الواجب ، وعلى هذا فقس، قل المال أو كثر ، بشرط أن يبلغ النصاب.
نصاب الذهب خمسة وثمانون جراماً (85) وتساوي عشرة جنيهات سعودية ونصف وزيادة قليلة ، يعني خمسة من ثمانية ، فإذا كان الذهب تبلغ زنته هذا وجبت فيه الزكاة ، وإن كان دون ذلك لم تجب فيه الزكاة .
أما الفضة فنصابها مائة وأربعون مثقالاً ، وهي أيضاً خمسمائة وخمسة وتسعون جراماً (595)، وتساوي بالدراهم دراهم الفضة السعودية ستة وخمسين ريالاً ، أي ما يزن ستة وخمسين ريالاً من ريال الفضة السعودية ، فإذا بلغ عند الإنسان من الفضة ما يزن ذلك، فقد وجبت فيه الزكاة ، ومادون هذا لا زكاة فيه.
وليعلم أن القول الراجح من أقوال أهل العلم ، أن الذهب لا يضم إلى الفضة في تكميل النصاب، لأنهما جنسان مختلفان ، وهما وإن اتفقا في المنفعة والغرض ، فإن ذلك لا يقتضي ضم أحدهما إلى الآخر في تكميل النصاب، لأن الشارع قدر لكل واحد منهما نصاباً معيناً يقتضي ألا تجب الزكاة فيما دونه ، ولم يأت عن النبي صلى الله عليه وسلم نص بضم أحدهما إلى الآخر ، وكما أن البر لا يضم إلى الشعير في تكميل النصاب مع أن مقصودهما واحد، فكذلك الذهب والفضة.
وبناء على ذلك : لو كان عند الإنسان نصف نصاب من الذهب ، ونصف نصاب من الفضة ، لم تجب عليه الزكاة في واحد منهما، لما ذكرنا من أنه لا يضم الذهب إلى الفضة في تكميل النصاب .
ويلحق بالذهب والفضة ما جعل بدلاً عنهما في كونه نقداً يتعامل به ، كالأوراق النقدية المعروفة بين الناس اليوم ، فإذا كان عند الإنسان من هذه الأوراق ما تساوي قيمتيه نصاباً من الذهب أو الفضة، فإن الزكاة تجب عليه فيها، لأنها نقود وليست عروض تجارة، إذ إنها هي قيم الأشياء التي تقدر بها ، وهي وسيلة التبادل بين الناس ، فكانت كالدنانير والدراهم وليست كعروض التجارة كما زعمه بعضهم.
وليعلم أن الزكاة في الذهب والفضة واجبة وإن كان الإنسان قد ادخرهما لنفقاته وحاجاته ، فإذا كان عند الإنسان عشرة آلاف درهم ، أعدها لشراء بيت يسكنه، فإن الزكاة واجبة فيها ولو بقيت سنوات ، وكذلك لو كان قد أعدها ليتزوج بها فإن الزكاة واجبة فيها ولو بقيت سنة أو أكثر.
المهم أن الزكاة واجبة في عين الذهب والفضة ، فتجب فيهما بكل حال ، وما يظنه بعض الناس من أن الدراهم إذا أعدت للنفقة ، أو لحاجة الزواج ونحوه لا زكاة فيها ، فإنه ظن خاطئ لا أصل له ، لا في الكتاب ، ولا في السنة ، ولا في أقوال أهل العلم ، وهذا بخلاف العروض ، فإن العروض هي التي يشترط فيها نية التجارة ، أما الذهب والفضة فالزكاة في أعيانهما فتجب فيهما بكل حال.
هذا أحد الأموال التي تجب فيها الزكاة ، وهو الذهب والفضة .
الثاني : الخارج من الأرض من الحبوب والثمار ، لقول الله تعالى: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَنْفِقُوا مِنْ طَيِّبَاتِ مَا كَسَبْتُمْ وَمِمَّا أَخْرَجْنَا لَكُمْ مِنَ الْأَرْضِ )(البقرة:267) ، ولقول النبي صلى الله عليه وسلم : " فيما سقت السماء العشر، وفيما سقي بالنضح نصف العشر"(134)، ولقول النبي صلى الله عليه وسلم " ليس فيما دون خمسة أوسق صدقة"(135) ، فتجب الزكاة في الخارج من الأرض من الحبوب والثمار ، من الحبوب : كالبر والذرة ، والأرز وغيرها.
ومن الثمار : كالنخيل والأعناب التي تزبب ويحصل منها الزبيب ، وأما الأعناب التي لا تزبب ففيها خلاف بين العلماء، فمنهم من قال : إنه لا زكاة فيها ، لأنها ملحقة بالفواكه، في كالبرتقال والتفاح ، ومنهم من قال : إنها تجب فيها الزكاة اعتباراً بأصل العنب، لأن أصل العنب أن يزبب ، فهو شبيه بثمار النخيل، أي شبيه بالتمر، والاحتياط أن يخرج الإنسان الزكاة منه ، وأما ما ليس بحبوب ولا ثمار ، يكال ويدخر ، مثل الفواكه على اختلاف أنواعها ، والخضروات على اختلاف أنواعها، فإنه لا زكاة فيها ولو كثرت.
ومقدار الزكاة في الحبوب والثمار العشر، أي : عشرة في المائة إذا كانت تسقى بلا مؤونة، كالذي يشرب بعروقه، لكون الأرض رطبة ، أو الذي يشرب بالطل ، أو الذي يشرب بالأنهار ، أو الذي يشرب بالقنوات التي تضرب في الأرض ثم ينبع منها الماء، هذا كله يجب فيه العشر، لأنه لا مؤونة في استخراج الماء الذي يسقى به، وأما إذا كان يسقى بمؤونة ، كالذي يسقى بالسواني أو بالمكائن أو بالغرافات ، أو ما أشبهها ، فإن الواجب فيه نصف العشر ، فأسقط الشارع عنه نصف العشر مراعاة لحاله، ونصف العشر خمسة في المائة ، فإذا قدرنا أن هذه المزرعة أنتجت خمسة آلاف صاع ، كان الواجب فيها إذا كان الزرع يسقى بلا مؤونة خمسمائة صاع ، وإذا كان يسقى بمؤونة كان الواجب مائتين وخمسين صاعاً ، وعلى هذا فقس.
ولكن لا تجب الزكاة في الحبوب والثمار حتى تبلغ نصاباً، والنصاب خمسة أوسق، والوسق ستون صاعاً بصاع النبي صلى الله عليه وسلم ، فيكون مجموع الآصع ثلاثمائة صاع بصاع النبي صلى الله عليه وسلم، فما دون ذلك فلا زكاة فيه، لقول النبي صلى الله عليه وسلم : " ليس فيما دون خمسة أوسق صدقة"(136).
هذان مالان مما تجب فيهما الزكاة.
زكاة الفواكه والخضروات إذا بيعت
السؤال (116): فضيلة الشيخ، بالنسبة للفواكه التي لا زكاة فيها ، هل إذا باعها الإنسان وجب عليه الزكاة في قيمتها"؟.
الجواب : هذه الفواكه والخضروات لا زكاة فيها ، ولكن الإنسان إذا باعها ، فإن في ثمنها الزكاة إن بقي حتى تم عليه الحول وكان من النقدين، الذهب والفضة أو ما جرى مجراهما، أما لو باعها بعروض ، مثل أن باعها بسيارات أو بأقمشة أو بأواني ، فإنه لا زكاة فيها أيضاً ما لم ينو التجارة بما جعله بدلاً ، فإن نوى التجارة كانت الزكاة واجبة وجوب زكاة العروض التي سنتكلم عنها إن شاء الله تعالى فيما بعد.
تابع الأصناف التي تجب فيها الزكاة
ومن الأموال الزكوية التي تجب فيها الزكاة : بهيمة الأنعام ، وهي الإبل والبقر والغنم، ولكن يشترط لوجوب الزكاة فيها شرطان : الشرط الأول : أن تكون معدة للدر والنسل والتسمين، لا للبيع والشراء .
والشرط الثاني : أن تكون سائمة الحول أو أكثره، يعني أن تتغذى على السوم- وهو الرعي - الحول أو أكثره.
فإن كانت غير معدة للدر والتسمين ، وإنما هي معدة للاتجار والتكسب، فهي عروض التجارة ، وسيأتي الكلام عليها إن شاء الله تعالى ، وإن كانت معدة للدر والتسمين، ولكنها تعلف فإنها لا زكاة فيها ، فلو كان عند الفلاح عشرون بعيراً أبقاها للتناسل وللدر والتسمين وللقنية، فإنها لا زكاة عليها في ذلك مادام يعلفها أكثر الحول لحديث أنس بن مالك رضي الله عنه، فيما كتبه أبو بكر الصديق رضي الله عنه في فريضة الصدقة التي فرضها رسول الله صلى الله عليه وسلم وأمر بها رسوله صلى الله عليه وسلم قال : "في الغنم في سائمتها"(137). وفي حديث بهز بن حيكم عن أبيه عن جده : " في الإبل في سائمتها"(138). وهذا يدل على أن غير السائمة ليس فيها زكاة وهو كذلك .
وأما مقدار الزكاة في البهائم - أي بهيمة الأنعام - فإنه يختلف ، وذلك لأن الأنصبة في بهيمة الأنعام مقدرة ابتداء وانتهاء ، ولكل قدر منها واجب خاص به ، فمثلاً في الغنم في كل أربعين شاة شاة واحدة ، وفي مائة وإحدى وعشرين شاتان ، فما بين الأربعين إلى مائة وعشرين ليس فيها إلا شاة واحدة ، وفي مائتين وواحدة ثلاث شياه، فما بين مائة وإحدى وعشرين إلى مائتين ليس فيه إلا شاتان ، ثم في كل مائة شاة ، ففي مائتين وواحدة ثلاث شياه، وفي ثلاثمائة وواحدة ثلاث شياه، وفي أربعمائة أربع شياه، وهلم جرا ، ولهذا لا يمكن أن نحدد الواجب في بهيمة الأنعام ، وذلك لاختلاف الأنصبة ابتداء وانتهاء ، ومرجع ذلك إلى كتب الحديث وأهل الفقه.
أما غير السائمة ، كالخيل والحمير والبغال ، فهذه لا زكاة فيها ولو كثرت ، ولو سامت، إذا لم تكن للتجارة ، لقول النبي صلى الله عليه وسلم : "ليس على المسلم في عبده ولا فرسه صدقة"(139).
فلو كان عند الإنسان مائة فرس يعدها للركوب والجهاد وغير ذلك من المصالح ، فإنه لا زكاة عليه فيها ولو كانت تساوي دراهم كثيرة. إلا إن كان يتّجر في الخيل، يبيع ويشتري، ويتكسب ، فعليه فيها زكاة العروض. هذه ثلاثة أموال تجب فيها الزكاة ، النقدان وهما الذهب والفضة ، والخارج من الأرض ، والثالث بهيمة الأنعام.
الرابع : عروض التجارة ، وعروض التجارة هي الأموال التي عند الإنسان يريد بها التكسب، ولا تختص بنوع معين من المال، بل كل ما أراد به الإنسان التكسب من أي نوع كان من المال ففيه الزكاة ، سواء كان المال عقاراً ، أو حيواناً ، أو مملوكاً من الآدميين ، أو سيارات أو أقمشة ، أو أواني ، أو أطياب ، أو غير ذلك ، المهم كل ما أعده الإنسان للتجارة والتكسب ففيه الزكاة ، ودليل ذلك عموم قوله تعالى : (وَالَّذِينَ فِي أَمْوَالِهِمْ حَقٌّ مَعْلُومٌ) (24) (لِلسَّائِلِ وَالْمَحْرُومِ) (المعارج:24-25) ، وقول النبي صلى الله عليه وسلم في حديث معاذ بن جبل حين بعثه إلى اليمن : "أعلمهم أن الله افترض عليهم صدقة في أموالهم تؤخذ من أغنيائهم فترد على فقرائهم(140) ، فالأصل في الأموال وجوب الزكاة إلا ما دل عليه الدليل، والقول ولقول النبي صلى الله عليه وسلم : "إنما الأعمال بالنيات، وإنما لكل امرئ ما نوى"(141).
وصاحب العروض إنما نوى قيمة العروض ، ليس له حاجة أو غرض في نفس العروض بدليل أنه يشتري السلعة في أول النهار ، فإذا ربحت في آخر النهار باعها ، وليس كالإنسان المقتني للسلع الذي يبقيها عنده سواء زادت أم نقصت، فإذن يكون مراد هذا المالك هو القيمة ، وهي الذهب والفضة أو ما جرى مجراهما ، وقد قال النبي صلى الله عليه وسلم : "إنما الأعمال بالنيات وإنما لكل امرئ ما نوى".
ولأننا لو قلنا بعدم وجوب الزكاة في العروض لسقطت الزكاة عن كثير من أموال التجار، لأن غالب أموال التجار التي يتجرون بها إنما هي عروض التجارة.
هذه أربعة أنواع من المال تجب فيها الزكاة ، واختلف العلماء في العسل، هل تجب فيه الزكاة أو لا تجب ؟ فمنهم من قال لا تجب الزكاة فيه ، ومنهم من قال : إنها تجب ، واستدلوا بأثر عمر بن الخطاب رضي الله عنه ، والمسألة عندي محل توقف ، والعلم عند الله.
وبناء على ذلك : فإنه لا زكاة على الإنسان فيما يقتنيه من الأواني والفرش ، والمعدات ، والسيارات ، والعقارات ، وغيرها ، حتى وإن أعده للإجارة ، فلو كان عند الإنسان عقارات كثيرة تساوي قيمتها الملايين ، ولكنه لا يتجر بها ، أي لا يبيعها ويشتري بدلها للتجارة مثلاُ ، وإنما أعدها للاستغلال ، فإنه لا زكاة في هذه العقارات ولو كثرت، وإنما الزكاة فيما يحصل منها من أجرة أو نماء ، فتجب الزكاة في أجرتها إذا تم عليها الحول من العقد، فإن لم يتم عليها الحول فلا زكاة فيها ، لأن هذه الأشياء - ما عدا الأصناف الأربعة السابقة - الأصل فيها براءة الذمة حتى يقوم دليل على الوجوب ، بل قد دل الدليل على أن الزكاة لا تجب فيها ، في قول النبي صلى الله عليه وسلم " ليس على المؤمن في عبده ولا فرسه صدقة"(142). فإنه يدل على أن ما اختصه الإنسان لنفسه من الأموال غير الزكوية ليس فيه صدقة ، أي ليس فيه زكاة ، والأموال التي أعدها الإنسان للاستغلال من العقارات وغيرها لا شك أن الإنسان قد أرادها لنفسه ولم يردها لغيره ، لأنه لا يبيعها بل يستبقيها للاستغلال والنماء.
تقدير قيمة الأراضي لإخراج زكاتها
السؤال (117): فضيلة الشيخ، لكن بالنسبة للأراضي التي اشتراها أصحابها، وكسدت في أيديهم نظراً لقلة قيمتها ، فهم يقدرونها بتقديرات عالية ، مع أنها لا تساوي إلا القليل في السوق ، فكيف تزكى هذه الأراضي؟
الجواب : الأراضي التي اشتراها أهلها للتجارة كما هو الغالب ينتظرون بها الزيادة هذه عروض تجارة ، وعروض التجارة تقوّم عند حول الزكاة بما تساوي ، ثم يخرج ربع الشعر منها ، لأن العبرة بقيمتها ، وقيمتها من الذهب والفضة، والذهب والفضة زكاتهما ربع العشر، ولا فرق بين أن تكون قيمة هذه الأراضي تساوي قيمة ما اشتريت به أو لا ، فإذا قدرنا أن رجلاً اشترى أرضاً بمائة ألف وكانت عند الحول تساوي مائتي ألف، فإنه يجب عليه أن يزكي عن المائتين جميعاً ، وإذا كان الأمر بالعكس ، اشترها بمائة ألف وكانت عند تمام الحول تساوي خمسين ألفاً فقط ، فإنه لا يجب عليه أن يزكي إلا عن خمسين ألفاً ، لأن العبرة بقيمتها عند وجوب الزكاة.
فإن شك الإنسان لا يدري: هل تزيد قيمتها عما اشتراها به أو تنقص ، أو هي هي ، فالأصل عدم الزيادة وعدم النقص ، فيقومها بثمنها الذي اشتراها به ، فإذا قدرنا أن هذه الأرض التي اشتراها بمائة ألف تساوي عند تمام الحول إن طلبت مائة وعشرين ، وتساوي إن جلبت ثمانين ألفاً ، وهو متردد ، نقول : قومها بما اشتريتها به ، لأن الأصل عدم الزيادة والنقص، ولكن يشكل على كثير من الناس اليوم أن عندهم أراضي كسدت في أيديهم ، ولا تساوي شيئاً ، بل إنهم يعرضونها للبيع ولا يجدون من يشتريها ، فكيف تزكى هذه الأراضي؟ نقول : إن كان عند الإنسان أموال يمكن أن يزكى منها - من الأموال التي عنده - أدى زكاتها من أمواله التي عنده ، وإن لم يكن عنده إلا هذه الأراضي الكاسدة، فإن له أن يأخذ ربع عشرها ويوزعها على الفقراء إن كانت في مكان يمكن أن ينتفع بها الفقير ويعمرها، وإلا فليقيد قيمتها وقت وجوب الزكاة ليخرج زكاتها فيما بعد إذا باعها.
وتكون هذه الأراضي مثل الدين الذي عند شخص فقير لا يستطيع الوفاء ، فالزكاة لا تجب عليه إلا إذا قبضها ، أي إلا إذا قبض الدين ، والصحيح أنه إذا قبض الدين من مدين معسر، فإنه يزكيه سنة واحدة فقط ولو كان قد بقي سنين كثيرة عند الفقير. ويمكن أن يقال في هذه الأراضي التي كسدت ولم يجد من يشتريها ، يمكن أن يقال : إنه لا يزكيها إلا سنة واحدة ، سنة البيع ، ولكن الأحوط إذا باعها أن يزكيها لكل ما مضى من السنوات، لأن الفرق بينها وبين الدين أن هذه ملكه بيده ، والدين في ذمة فقير خربت لكونه أعسر.
تزكية الديون التي في ذمم الناس
السؤال (118): فضيلة الشيخ ، كيف تزكى الديون التي في ذمم الناس؟
الجواب : الديون التي في ذمم الناس ، سواء كانت ثمن مبيع ، أو أجرة ، أو قرضاً ، أو قيمة متلف ، أو أرش جناية، أو غير ذلك مما يثبت في الذمة ، تنقسم إلى قسمين :
الأول : أن تكون مما لا تجب الزكاة في عينه ، كالعروض ، بأن يكون عند الإنسان لشخص ما مائة صاع من البر أو أكثر ، فهذا الدين لا زكاة فيه ، وذلك لأن الزروع أو -الحبوب -لا تجب الزكاة في عينها إلا لمن زرعها.
وأما الثاني: فهي الديون التي تجب الزكاة في عينها كالذهب والفضة ، وهذا فيه الزكاة على الدائن ، لأنه صاحبه ويملك أخذه والإبراء منه ، فيزكيه كل سنة ، إن شاء زكاه مع ماله ، وإن شاء قيد زكاته وأخرجها إذا قبضه ، فإذا كان عند شخص لآخر مائة ألف فإن من له المائة يزكيها كل عام ، أو فإن الزكاة تجب على من هي له كل عام . لكن هو بالخيار، إما أن يخرج زكاتها مع ماله ، وإما أن ينتظر حتى يقبضها ثم يزكيها لما مضى ، هذا إذا كان الدين على موسر باذل ، فإن كان الدين على معسر ، فإن الصحيح أن الزكاة لا تجب فيه ، لأن صاحبه لا يملك المطالبة به شرعاً ، فإن الله تعالى يقول : (وَإِنْ كَانَ ذُو عُسْرَةٍ فَنَظِرَةٌ إِلَى مَيْسَرَةٍ )(البقرة: 280) ، فهو في الحقيقة عاجز شرعاً عن ماله ، فلا تجب عليه الزكاة فيه ، لكن إذا قبضه فإنه يزكيه سنة واحدة فقط وإن بقي في ذمة المدين عشر سنوات، لأن قبضه إياه يشبه تحصيل ما خرج من الأرض ، يزكى عند الحصول عليه .
وقال بعض أهل العلم: لا يزكيه لما مضى ، وإنما يبتدئ به حولاً من جديد. وما ذكرناه أحوط وأبرأ للذمة ، أنه يزكيه سنة واحدة لما مضى ثم يستأنف به حولاً ، والأمر في هذا سهل ، وليس من الصعب على الإنسان أن يؤدي ربع العشر من دينه الذي قبضه بعد أن أيس منه ، فإن هذا من شكر نعمة الله عليه بتحصيله .
هذا هو القول في زكاة الديون وخلاصته : أنها ثلاثة أقسام : قسم لا زكاة فيه ، وهو ما إذا كان الدين مما لا تجب الزكاة في عينه، مثل أن يكون في ذمة شخص لآخر أصواع من البر، أو كيلوات من السكر أو الشاي أو ما أشبه ذلك ، فهذا لا زكاة فيه ، فما دام الدين مما لا تجب الزكاة في عينه ، فلا زكاة فيه ولو كان عنده مئات الأصواع.
والقسم الثاني : الدين الذي تجب الزكاة في عينه ، كالذهب والفضة ولكنه على معسر، فهذا لا زكاة فيه إلا إذا قبضه ، فإنه يزكيه لسنة واحدة ثم يستأنف فيه حولاً ، وقيل : إنه يستأنف فيه حولاً على كل حال ، ولكن ما قلناه أولى لما ذكرنا من التعليل.
القسم الثالث : ما تجب فيه الزكاة كل عام ، وهو الدين الذي تجب فيه الزكاة في عينه ، وهو على موسر باذل ، فهذا فيه الزكاة كل عام ، لكن إن شاء صاحب الدين أن يخرج زكاته مع ماله ، وإن شاء أخرها حتى يقبضه من المدين .
خرص عروض التجارة
السؤال (119) : فضيلة الشيخ ، هل يجوز خرص التجارة أو عروض التجارة إذا تعذر إحصاؤها أو شق على التجار؟
الجواب : لا يجوز خرصها ، لأن الخرص إنما ورد في الثمار، وألحق به بعض العلماء الزروع ، وأما الأموال فلا يمن خرصها ، لأنها أنواع متعددة، لكن على الإنسان أن يتحرى ما استطاع ، وأن يحتاط لنفسه ، فإذا قدر أن هذه البضاعة تبلغ قيمتها مائة ويحتمل أن تكون مائة وعشرين ، فليخرج عن مائة وعشرين إبراء لذمته.
الزكاة في مال الصغير والمجنون
السؤال (120): فضيلة الشيخ ، هل تجب الزكاة في مال غير المكلف ، كالصغير والمجنون؟
الجواب : هذا فيه خلاف بين العلماء ، فمنهم من قال : إن الزكاة في مال الصغير والمجنون غير واجبة نظراً إلى تغليب التكليف بها ، ومعلوم أن الصغير والمجنون ليسا من أهل التكليف فلا تجب الزكاة في مالهما.
ومنهم من قال : بل الزكاة واجبة في مالهما، وهو الصحيح نظراً لأن الزكاة من حقوق المال، لا ينظر فيها إلى المالك ، لقول الله تعالى: (خُذْ مِنْ أَمْوَالِهِمْ صَدَقَةً تُطَهِّرُهُمْ )(التوبة: 103) ، فقال (خُذْ مِنْ أَمْوَالِهِمْ ) - فجعل مناط الحكم أو موضع الوجوب : المال.
ولقول النبي صلى الله عليه وسلم لمعاذ بن جبل حين بعثه إلى اليمن : " أعلمهم أن الله افترض عليهم صدقة في أموالهم ، تؤخذ من أغنيائهم فترد على فقرائهم"(143). وعلى هذا فتجب الزكاة في مال الصبي والمجنون ، ويتولى إخراجها وليهما.
مصارف الزكاة
السؤال (121): فضيلة الشيخ ، ما هي المصارف التي يجب أن تصرف فيها الزكاة؟
الجواب : المصارف التي يجب أن تصرف فيها الزكاة ثمانية بينها الله تعالى بياناً شافياً كافياً ، وأخبر عز وجل أن ذلك فريضة ، وأنه مبنى على العلم والحكمة، فقال جل ذكره: (إِنَّمَا الصَّدَقَاتُ لِلْفُقَرَاءِ وَالْمَسَاكِينِ وَالْعَامِلِينَ عَلَيْهَا وَالْمُؤَلَّفَةِ قُلُوبُهُمْ وَفِي الرِّقَابِ وَالْغَارِمِينَ وَفِي سَبِيلِ اللَّهِ وَابْنِ السَّبِيلِ) (التوبة:60) ، قال الله تعالى بعد ( فَرِيضَةً مِنَ اللَّهِ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ)(التوبة:60) .
فهؤلاء أصناف أهل الزكاة الذين تدفع إليهم ، وهم ثمانية كالتالي:
الفقراء والمساكين: وهؤلاء يعطون من الزكاة لدفع ضرورتهم وحاجتهم.
والفرق بين الفقراء والمساكين : أن الفقراء أشد حاجة ، لا يحد الواحد منهم ما يكفيه وعائلته لنصف سنة ، والمساكين أعلى حالاً من الفقراء ، لأنهم يجدون نصف الكفاية فأكثر دون كمال الكفاية . هؤلاء يعطون لحاجتهم ، ولكن كيف نقدر الحاجة؟ قال العلماء : يعطون لحاجتهم ما يكفيهم وعائلتهم لمدة سنة ، ويحتمل أن يعطون ما يكونون به أغنياء، لكن الذين قدروا ذلك بسنة قالوا: لأن السنة إذا دارت وجبت الزكاة في الأموال ، فكما أن الحول هو تقدير الزمن الذي تجب فيه الزكاة ، فكذلك ينبغي أن يكون الحول هو تقدير الزمن الذي تدفع فيه حاجة الفقراء والمساكين الذين هم أهل الزكاة . وهذا قول حسن جيد ، أي أننا نعطي الفقير والمسكين ما يكفيه وعائلته لمدة عام كامل ، سواء أعطيناه أعياناً من أطعمة وألبسة ، أو أعطيناه نقوداً يشتري بها هو ما يناسبه ، أو أعطيناه صنعة إذا كان يحسن الصنعة ، يعني آلة يصنع بها إذا كان يحسن الصنعة ، كخياط ونجار ، وحداد ونحوه ، المهم أن نعطيه ما يكفيه وعائلته لمدة سنة.
الثالث : العاملون عليها : أي الذين لهم ولاية عليها من قبل ولي الأمر ، ولهذا قال : " والعاملين عليها" ولم يقل : العاملون فيها ، إشارة إلى أن لهم نوع ولاية ، وهم جباتها الذين يجبونها من أهلها ، وقسامها الذين يقسمونها في أهلها ، وكتابها ونحوهم، فهؤلاء عاملون عليها يعطون من الزكاة، ولكن : كم يعطون؟ ننظر : هم عاملون عليها ، فهم مستحقون بوصف العمالة ، ومن استحق بوصف أعطي بقدر ذلك الوصف ، وعليه فيعطون من الزكاة بقدر عمالتهم فيها ، سواء كانوا أغنياء أم فقراء ، لأنهم يأخذون الزكاة لعملهم لا لحاجتهم ، وعلى هذا فيعطون ما يقتضيه العمل من الزكاة ، فإن قدر أن العاملين عليها فقراء، فإنهم يعطون بالعمالة ويعطون بالفقر كذلك ، فيعطون ما يكفيهم لمدة سنة لفقرهم .
فهؤلاء يأخذون لعمالتهم أيضاً ، لأنهم استحقوا الصدقة أو الزكاة بوصفين : العمالة عليها ، والفقر ، فيعطون بكلا الوصفين ، ولكن إذا أعطيناهم للعمالة فيبقون أغنياء بقدر ما أخذوا من العمالة، فنكمل لهم المؤونة لمدة سنة ، مثال ذلك : إذا قدرنا أنه يكفيهم لمدة سنة عشرة آلاف ريال ، وأننا إذا أعطيناهم لفقرهم أخذوا عشرة آلاف ريال ، وأن نصيبهم من العمالة ألفا ريال، فعلى هذا نعطيهم ألفي ريال للعمالة ، ونعطيهم ثمانية آلاف ريال للفقر، هذا وجه قولنا : يعطون كفايتهم لمدة سنة ، لأنهم إذا أخذوا بالعمالة صاروا لا يحتاجون إلا ما زاد على استحقاقهم العمالة لمدة سنة .
الرابع : المؤلفة قلوبهم: وهم الذين يعطون لتأليفهم على الإسلام ، إما كافر يرجى إسلامه ، وإما مسلم نعطيه لتقوية الإيمان في قلبه، وإما شرير نعطيه لدفع شره عن المسلمين ، أو نحو ذلك ممن يكون في تأليفه مصلحة للمسلمين، ولكن هل يشترط في ذلك أن يكون سيداً مطاعاً في قومه حتى يكون في تأليفه مصلحة عامة؟ أو يجوز أن يعطى لتأليفه ولو لمصلحة شخصية كرجل دخل في الإسلام حديثاً يحتاج إلى تأليفه وتقوية إيمانه بإعطائه؟
هذا محل خلاف بين العلماء ، والراجح عندي أنه لا بأس أن يعطى لتأليفه على الإسلام بتقوية إيمانه ، وإن كان يعطى بصفة شخصية وليس سيداً في قومه لعموم قوله تعالى: (وَالْمُؤَلَّفَةِ قُلُوبُهُمْ) ولأنه إذا جاز أن نعطي الفقير لحاجته البدنية الجسمية ، فإعطاؤنا هذا الضعيف الإيمان لتقويه إيمانه من باب أولى ، لأن تقوية الإيمان بالنسبة لشخص أهم من غذاء الجسد.
هؤلاء الأربعة يعطون الزكاة على سبيل التمليك ، ويملكونها ملكاً تاماً ، حتى لو زال الوصف منهم في أثناء الحول لم يلزمهم رد الزكاة بل تبقى حلالاً لهم ، لأن الله عبر عن استحقاقهم باللام، فقال: (إِنَّمَا الصَّدَقَاتُ لِلْفُقَرَاءِ وَالْمَسَاكِينِ وَالْعَامِلِينَ عَلَيْهَا وَالْمُؤَلَّفَةِ قُلُوبُهُمْ) (التوبة:60) ، فأتى باللام ، وفائدة ذلك أن الفقير لو استغنى في أثناء الحول فإنه لا يلزمه رد الزكاة ، مثل : لو أعطيناه عشرة آلاف لفقره وهي تكفيه لمدة سنة ، ثم إن الله تعالى أغناه في أثناء الحول باكتساب مال أو موت قريب له يرثه ، أو ما أشبه ذلك ، فإنه لا يلزمه رد ما بقي من المال الذي أخذه من الزكاة لأنه ملكه.
أما الخامس من أهل الزكاة : فهم الرقاب ، لقوله تعالى: (وَفِي الرِّقَابِ) . والرقاب فسرها العلماء بثلاثة أشياء : الأول : مكاتب اشترى نفسه من سيده بدراهم مؤجلة في ذمته ، فيعطى ما يوفي به سيده ، والثاني : رقيق مملوك اشتري من الزكاة ليعتق ، والثالث : أسير مسلم أسره الكفار، فيعطى الكفار من الزكاة لفكهم هذا الأسير ، ومثله أيضاً الاختطاف ، فلو اختطف المسلمَ أحد من المسلمين أو الكفار فلا بأس أن يفدى هذا المختطِف بشيء من الزكاة، لأن العلة واحدة وهي فكاك المسلم من الأسر ، وهذا إذا لم يمكننا أن نرغم المختطف على فكاكه بدون بذل المال، إذا كان المختطِف من المسلمين.
والصنف السادس من أهل الزكاة : الغارمين : الغارم هو المدين ، وقسم العلماء -رحمهم الله - الغرم إلى قسمين : الأول : غرم لإصلاح ذات البين ، وغرم لسداد الحاجة، أما الغرم لإصلاح ذات البين فمثلوا له بأن يقع بين قبيلتين تشاحن وتشاجر أو حروب ، فيأتي رجل من أهل الخير والجاه واشرف والسؤدد ويصلح بين هاتين القبيلتين بدراهم يتحملها في ذمته، فإننا نعطي هذا الرجل المصلح الدراهم التي تحملها من الزكاة ، جزاء له على هذا العمل الجليل الذي قام به ، والذي فيه إزالة الشحناء والعداوة بين المؤمنين وحقن دماء الناس ، وهذا يعطى سواء كان غنياً أم فقيراً ، لأننا لسنا نعطيه لسد حاجته ، ولكننا نعطيه لما قام به من المصلحة العامة.
أما الثاني فهو الغارم لنفسه ، الذي استدان لنفسه باستقراض شيء ليدفعه في حاجته ، أو بشراء شيء يحتاجه ، يشتريه في ذمته وليس عنه مال ، فهذا نوفي دينه من الزكاة بشرط أن يكون فقيراً ولو لم يعلم بذلك ، وعليه فهل الأفضل أن نعطي هذا المدين من الزكاة ليوفي دينه ؟ أو أن نذهب نحن إلى دائنه ونوفي عنه؟ هذا يختلف، فإن كان هذا الرجل المدين حريصاً على وفاء دينه وإبراء ذمته ، وهو أمين فيما يعطى لوفاء الدين ، فإننا نعطيه هو بنفسه يقضي دينه ، لأن هذا استر له وأبعد عن تخجيله أمام الناس الذين يطلبونه.
أما إذا كان المدين رجلاً مبذراً يفسد الأموال ، ولو أعطيناه مالاً ليقضي دينه ذهب يشتري به أشياء لا ضرورة لها ، فإننا لا نعطيه وإنما نذهب نحن إلى دائنه ونقول له : ما دين فلان لك ؟ ثم نعطيه هذا الدين أو بعضه ، حسب ما يتيسر .
وهل يقضى منها -أي من الزكاة -دين على ميت لم يخلف تركة؟ ذكر ابن عبد البر وأبو عبيدة أنه لا يقضى منها دين على الميت بالإجماع ، ولكن الواقع أن المسألة فيها خلاف ولكن أكثر العلماء يقولون : إنه لا يقضى منها دين على ميت، وأن الميت انتقل إلى الآخرة ولا يلحقه من الذل والهوان بالدين الذي عليه ما يلحق الأحياء، ولأن النبي صلى الله عليه وسلم لم يكن يقضي ديون الأموات من الزكاة، بل كان يقضيها عليه الصلاة والسلام من أموال الفيء حين فتح الله عليه ، وهذا يدل على أنه لا يصح قضاء دين الميت من الزكاة ، ويقال : الميت إن كان قد أخذ أموال الناس يريد أداءها فإن الله تعالى يؤدي عنه بفضله وكرمه ، وإن كان قد أخذها يريد إتلافها فهو الذي جنى على نفسه ، ويبقى الدين في ذمته يستوفى يوم القيامة ، وعندي أن هذا أقرب من القول بأنه يقضى منها الدين على الميت.
وقد يقال : يفرق بين ما إذا كان الأحياء يحتاجون إلى الزكاة، لفقر أو غرم أو جهاد أو غير ذلك ، وما إذا كان الأحياء لا يحتاجون إليها، ففي الحال لا التي يحتاج إليها الأحياء يقدم الأحياء على الأموات ، وفي الحال التي لا يحتاج إليها الأحياء لا حرج أن نقضي ديون الأموات الذين ماتوا ولم يخلفوا مالاً ، ولعل هذا قول يكون وسطاً بين القولين.
ثم الصنف السابع: في سبيل الله ، وسبيل الله هنا المراد بها الجهاد في سبيل الله لا غير، ولا يصح أن يراد بها جميع سبل الخير، لأنه لو كان المراد بها جميع سبل الخير لم يكن للحصر فائدة في قوله : (إِنَّمَا الصَّدَقَاتُ لِلْفُقَرَاءِ وَالْمَسَاكِينِ) الآية. إذ يكون الحصر عديم التأثير، فالمراد بسبيل الله هو الجهاد في سبيل الله، فيعطى المقاتلون في سبيل الله الذين يظهر من حالهم أنهم يقاتلون لتكون كلمة الله هي العليا ، يعطون من الزكاة ما يحتاجون إليه من النفقات والأسلحة وغير ذلك . ويجوز أن تشترى الأسلحة لهم من الزكاة ليقاتلوا بها ، ولكن لابد أن يكون القتال في سبيل الله.
والقتال في سبيل الله بينه الرسول صلى الله عليه وسلم بميزان عدل من قسط حين سئل عن الرجل يقاتل حمية، ويقاتل شجاعة ، ويقاتل ليرى مكانه، أي ذلك في سبيل الله؟ قال : " من قاتل لتكون كلمة الله هي العليا فهو في سبيل الله"(144)، فالرجل المقاتل حمية لوطنه أو قوميته أو غير ذلك من أنواع الحميات ليس يقاتل في سبيل الله ، فلا يستحق ما يستحقه المقاتل في سبيل الله ، لا من الأمور المادية الدنيوية ولا من أمور الآخرة، والرجل الذي يقاتل شجاعة أي أنه يحب القتال لكونه شجاعاً ، والمتصف بصفة غالباً يحب أن يقوم بها على أي حال كانت ، هو أيضاً ليس يقاتل في سبيل الله ، والمقاتل ليرى مكانه، يقاتل رياء وسمعة، ليس من المقاتلين في سبيل الله ، وكل من لا يقاتل في سبيل الله فإنه لا يستحق من الزكاة، لأن الله تعالى يقول: (وَفِي سَبِيلِ اللَّهِ) .
والذي يقاتل في سبيل الله هو الذي يقاتل لتكون كلمة الله هي العليا، قال أهل العلم: ومن سبيل الله : الرجل يتفرغ لطلب العلم الشرعي ، فيعطى من الزكاة ما يحتاج إليه من نفقة ، من كسوة وطعام وشراب ومسكن وكتب علم يحتاجها، لأن العلم الشرعي نوع من الجهاد في سبيل الله ، بل قال الإمام أحمد رحمه الله: " العلم لا يعدله شيء لمن صحت نيته". فالعلم هو أصل الشرع كله، ولا شرع إلا بعلم، والله سبحانه وتعالى أنزل الكتاب ليقوم الناس بالقسط ويتعلموا أحكام شريعته وما يلزم من عقيدة وقول وفعل ، أما الجهاد في سبيل الله فنعم ، هو من أشرف الأعمال، بل هو ذروة سنام الإسلام ، ولا شك في فضله، لكن العلم له شأن كبير في الإسلام، فدخوله في الجهاد في سبيل الله دخول واضح لا إشكال فيه، فإذا جاءنا رجل أهل للعلم، وقال : أنا إن ذهبت اكتسب لنفسي وأهلي لم أتمكن من طلب العلم، وإن تفرغت لطلب العلم فإنني أحصل فيه ، ولكن لا أجد ما يدفع حاجتي ، فإننا نقول له : تفرغ لطلب العلم ونعطيه ما يدفع به حاجته من الزكاة.
الثامن : بقي من أصناف أهل الزكاة صنف واحد وهو ابن السبيل ، وابن السبيل هو المسافر الذي انقطع به السفر ونفدت نفقته ، فإنه يعطى من الزكاة ما يوصله إلى بدله وإن كان في بلده غنياً ، لأنه محتاج ، ولا نقول له في هذه الحال: يلزمك أن تستقرض وتوفي ، لأننا في هذه الحال نلزم ذمته ديناً ، ولكن لو اختار هو أن يستقرض ولا يأخذ من الزكاة فالأمر إليه ، فإذا وجدنا شخصاً مسافراً من مكة إلى المدينة ، وفي أثناء السفر ضاعت نفقته ولم يبق معه شيء ، وهو غني في المدينة، فإننا نعطيه ما يوصله إلى المدينة فقط، لأن هذه هي حاجته ، ولا نعطيه أكثر.
وإذا كنا قد عرفنا أصناف أهل الزكاة الذين تدفع إليهم، فإن ما سوى ذلك من المصالح العامة أو الخاصة لا تدفع فيه الزكاة ، وعلى هذا فلا تدفع الزكاة في بناء المساجد، ولا في إصلاح الطرق، ولا في بناء المكاتب وشبه ذلك ، لأن الله عز وجل لما ذكر أصناف أهل الزكاة قال : ( فَرِيضَةً مِنَ اللَّهِ) . يعني أن هذا التقسيم جاء فريضة من الله عز وجل : (وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ) .
نقول : هل هؤلاء المستحقون يجب أن يعطى كل واحد منها، أي كل صنف، لأن الواو تقتضي الجمع؟
فالجواب : أن ذلك لا يجب ، لقول النبي صلى الله عليه وسلم لمعاذ بن جبل حين بعثه إلى اليمن : "أعلمهم أن الله افترض عليهم صدقة في أموالهم ، تؤخذ من أغنيائهم فترد على فقرائهم"(145) . فلم يذكر النبي صلى الله عليه وسلم إلا صنفاً واحداً ، وهذا يدل على أن الآية يبين الله تعالى فيها جهة الاستحقاق ، وليس المراد أنه يجب أن تعمم هذه الأصناف.
ولكن إذا قيل : أيها أولى أن يصرف فيه الزكاة ؟
قلنا : إن الأولى ما كانت الحاجة إليه أشد، لأن كل هؤلاء استحقوا بوصف، فمن كان أشد إلحاحاً وحاجة فهو أولى ، والغالب أن الأشد هم الفقراء والمساكين ، ولهذا بدأ الله تعالى بهم فقال : (إِنَّمَا الصَّدَقَاتُ لِلْفُقَرَاءِ وَالْمَسَاكِينِ) .
حكم صرف الزكاة للأقارب الفقراء
السؤال (122): فضيلة الشيخ ، ما حكم جعل الزكاة في الأقارب المحتاجين؟
الجواب : الزكاة في الأقارب الذين لهم من أهلها أولى من أن تكون في غير الأقارب ، لأن الصدقة على الأقارب صدقة وصلة، فإذا كان أخوك ، أو عمك ، أو أبوك، أو أمك من أهل الزكاة، فهم أولى بها من غيرهم، لكن إذا كانوا يأخذون الزكاة لحاجتهم، وأنت تجب عليك نفقتهم، فإنه لا يجوز أن تعطيهم من الزكاة في هذه الحال، لأنك إذا أعطيتهم من الزكاة رفدت مالك ووقيته بما تعطيه من الزكاة ، فإذا قدرنا أن لك أخاً فقيراً وأنت عندك زكاة ونفقته تجب عليك ، فإنه لا يجوز أن تعطيه لفقره، لأنك إذا أعطيته لفقره رفدت مالك ووقيته بما تعطيه ، إذ لو لم تعطه من الزكاة لوجب عليك الإنفاق عليه، أما لو كان على أخيك هذا دين لا يستطيع وفاءه، مثل أن يحصل منه إتلاف شيء أو جناية على أحد ، ويلزمه مال، ففي هذه الحال يجوز أن تقضي دينه من زكاتك ، لأنه لا يجب عليك قضاء دينه، وإنما الواج
المقصود بالزكاة لغة وشرعاً
السؤال (111): فضيلة الشيخ ، ما المقصود بالزكاة في اللغة، وفي الشرع؟ وما العلاقة بين المفهومين؟
الجواب : الزكاة في اللغة : الزيادة والنماء، فكل شيء زاد عدداً ، أو نما حجماً فإنه يقال : زكا. فيقال : زكا الزرع ، إذا نما وطال.
وأما في الشرع : فهي التعبد لله تعالى بإخراج قدر واجب شرعاً في أموال مخصومة لطائفة أو جهة مخصوصة.
والعلاقة بين المعنى اللغوي والمعنى الشرعي، أن الزكاة وإن كان ظاهرها النقص، نقص كمية المال ، لكن آثارها زيادة المال، زيادة المال بركة ، وزيادة المال كمية، فإن الإنسان قد يفتح الله له من أبواب الرزق ما لا يخطر على باله إذا قام بما أوجب الله عليه في ماله ، قال الله تعالى : (وَمَا آتَيْتُمْ مِنْ رِباً لِيَرْبُوَ فِي أَمْوَالِ النَّاسِ فَلا يَرْبُو عِنْدَ اللَّهِ وَمَا آتَيْتُمْ مِنْ زَكَاةٍ تُرِيدُونَ وَجْهَ اللَّهِ فَأُولَئِكَ هُمُ الْمُضْعِفُونَ) (الروم:39)، وقال تعالى : ( وَمَا أَنْفَقْتُمْ مِنْ شَيْءٍ فَهُوَ يُخْلِفُهُ وَهُوَ خَيْرُ الرَّازِقِينَ)(سـبأ: 39) ، يخلفه : أي يأتي بخلفه وبدله.
وقال النبي صلى الله عليه وسلم : "ما نقصت صدقة من مال"(129). وهذا أمر مشاهد ، فإن الموفقين لأداء ما يجب عليهم في أموالهم يجدون بركة فيما ينفقونه، وبركة فيما يبقى عندهم ، وربما يفتح الله لهم أبواب رزق يشاهدونها رأي العين ، بسبب إنفاقهم أموالهم في سبيل الله .
ولهذا كانت الزكاة في الشرع ملاقية للزكاة في اللغة من حيث النماء والزيادة.
ثم إن في الزكاة أيضاً زيادة أخرى ، وهي زيادة الإيمان في قلب صاحبها، فإن الزكاة من الأعمال الصالحة، والأعمال الصالحة تزيد في إيمان الرجل ، لأن مذهب أهل السنة والجماعة أن الأعمال الصالحة من الإيمان ، وأن الإيمان يزداد بزيادتها ، وينقص بنقصها، وهي أيضاً تزيد الإنسان في خلقه ، فإنها بذل وعطاء، والبذل والعطاء يدل على الكرم والسخاء، والكرم والسخاء لا شك أنه خلق فاضل كريم ، بل إن له آثاراً بالغة في انشراح الصدر، ونور القلب ، وراحته، ومن أراد أن يطلع على ذلك فليجرب الإنفاق ، يجد الآثار الحميدة التي تحصل له بهذا الإنفاق، ولا سيما فيما إذا كان الإنفاق واجباً مؤكداً كالزكاة، فإن الزكاة أحد أركان الإسلام ومبانيه العظام، وهي التي تأتي كثيراً مقرونة بالصلاة التي هي عمود الإسلام ، وهي في الحقيقة محك تبين كون الإنسان محبا لما عند الله عز وجل ، لأن المال محبوب إلى النفوس ، وبذل المحبوب لا يمكن أن يكون إلا من أجل محبوب يؤمن به الإنسان وبحصوله، ويكون هذا المحبوب أيضاً أحب مما بذله.
ومصالح الزكاة، وزيادة الإيمان بها ، وزيادة الأعمال ، وغير ذلك أمر معلوم ، يحصل بالتأمل فيه أكثر مما ذكرنا الآن.
آثار الزكاة على المجتمع والاقتصاد
السؤال (112): فضيلة الشيخ، ذكرتم تعريف الزكاة أو مفهوم الزكاة اللغوي والشرعي، والعلاقة بينهما ، ثم تحدثتم أيضاً عن الآثار التي تنعكس على الفرد، لكن أيضاً مادمنا عرفنا الآثار التي تنعكس على الفرد، فما هي الآثار التي تنعكس على المجتمع، وعلى الاقتصاد الإسلامي أيضاً؟
الجواب: آثار الزكاة على المجتمع وعلى الاقتصاد الإسلامي ظاهرة أيضاً، فإن فيها من مواساة الفقراء والقيام بمصالح العامة ما هو معلوم ظاهر من مصارف هذه الزكاة ، فإن الله سبحانه وتعالى قال في مصارف هذه الزكاة: (إِنَّمَا الصَّدَقَاتُ لِلْفُقَرَاءِ وَالْمَسَاكِينِ وَالْعَامِلِينَ عَلَيْهَا وَالْمُؤَلَّفَةِ قُلُوبُهُمْ وَفِي الرِّقَابِ وَالْغَارِمِينَ وَفِي سَبِيلِ اللَّهِ وَابْنِ السَّبِيلِ) (التوبة:60) .
وهؤلاء الأصناف الثمانية منهم من يأخذها لدفع حاجته ، ومنهم من يأخذها لحاجة المسلمين إليه، فالفقراء والمساكين والغارمون لأنفسهم، هؤلاء يأخذون لحاجتهم، وكذلك ابن السبيل والرقاب، ومنهم من يأخذ لحاجة الناس إليه، كالغارم لإصلاح ذات البين ، والعاملين عليها والمجاهدين في سبيل الله.
فإذا عرفنا أن توزيع الزكاة على هذه الأصناف يحصل بها دفع الحاجة الخاصة لمن يعطاها ، ويحصل بها دفع الحاجة العامة للمسلمين، عرفنا مدى نفعها للمجتمع.
وفي الاقتصاد تتوزع الثروات بين الأغنياء والفقراء ، بحيث يؤخذ من أموال الأغنياء هذا القدر ليصرف إلى الفقراء، ففيه توزيع للثروة حتى لا يحدث التضخم من جانب والبؤس والفقر من جانب آخر.
وفيها أيضاً من صلاح المجتمع : ائتلاف القلوب ، فإن الفقراء إذا رأوا من الأغنياء أنهم يمدونهم بالمال، ويتصدقون عليهم بهذه الزكاة التي لا يجدون فيها منة عليهم ، لأنها مفروضة عليهم من قبل الله ، فإنهم بلا شك يحبون الأغنياء ويألفونهم ويرجون ما أمرهم الله به من الإنفاق والبذل، بخلاف ما إذا شح الأغنياء بالزكاة وبخلوا بها واستأثروا بالمال ، فإن ذلك قد يولد العداوة والضغينة في قلوب الفقراء ، ويشير إلى هذا ختم الآيات الكريمة التي فيها بيان مصارف الزكاة بقوله تعالى : ( فَرِيضَةً مِنَ اللَّهِ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ)(التوبة: 60).
شروط وجوب الزكاة
السؤال (113): فضيلة الشيخ ، حبذا لو عرفنا شروط وجوب الزكاة ؟
الجواب : شروط وجوب الزكاة : الإسلام، والحرية ، وملك النصاب ، واستقراره، ومضي الحول ، إلا في المعشرات .
فأما الإسلام : فإن الكافر لا تجب عليه الزكاة ، ولا تقبل منه لو دفعها باسم الزكاة، لقول الله تعالى : (وَمَا مَنَعَهُمْ أَنْ تُقْبَلَ مِنْهُمْ نَفَقَاتُهُمْ إِلَّا أَنَّهُمْ كَفَرُوا بِاللَّهِ وَبِرَسُولِهِ وَلا يَأْتُونَ الصَّلاةَ إِلَّا وَهُمْ كُسَالَى وَلا يُنْفِقُونَ إِلَّا وَهُمْ كَارِهُونَ) (التوبة:54)الآية .
ولكن ليس معنى قولنا إنها لا تجب على الكافر ولا تصح منه ولا تقبل منه، أنه معفى عنها في الآخرة ، بل إنه يعاقب عليها ، لقوله تعالى : (كُلُّ نَفْسٍ بِمَا كَسَبَتْ رَهِينَةٌ) (38) (إِلَّا أَصْحَابَ الْيَمِينِ) (39) (فِي جَنَّاتٍ يَتَسَاءَلُونَ) (40) (عَنِ الْمُجْرِمِينَ) (41) (مَا سَلَكَكُمْ فِي سَقَرَ) (42) (قَالُوا لَمْ نَكُ مِنَ الْمُصَلِّينَ) (43) (وَلَمْ نَكُ نُطْعِمُ الْمِسْكِينَ) (44) (وَكُنَّا نَخُوضُ مَعَ الْخَائِضِينَ) (45) (وَكُنَّا نُكَذِّبُ بِيَوْمِ الدِّينِ) (46) (حَتَّى أَتَانَا الْيَقِينُ) (المدثر38-47) ، وهذا يدل على أن الكفار يعذبون على إخلالهم بفروع الإسلام ، وهو كذلك.
وأما الحرية : فلأن المملوك لا مال له ، إذ إن ماله لسيده، لقول النبي صلى الله عليه وسلم "من باع عبداً له مال ، فماله لبائعه إلا أن يشترط المبتاع"(130). فهو إذن غير مالك للمال حتى تجب عليه الزكاة، وإذا قدر أنه أي العبد ملك بالتمليك، فإن ملكه في النهاية يعود إلى سيده، لأن سيده له أن يأخذ ما بيده، وعلى هذا ففي ملكه نقص ، ليس مستقراً استقرار أملاك الأحرار.
وأما ملك النصاب: فمعناه أن يكون عند الإنسان مال يبلغ النصاب الذي قدره الشرع ، وهو يختلف باختلاف الأموال ، فإذا لم يكن عند الإنسان نصاب فإنه لا زكاة عليه ، لأن ماله قليل لا يحتمل المواساة ، والنصاب يختلف باختلاف الأموال، ففي المواشي الأنصبة فيها مقدرة ابتداء وانتهاء ، وفي غيرها الأنصبة مقدرة فيها ابتداء وما زاد فبحسابه.
وأما مضي الحول : فلأن إيجاب الزكاة في أقل من الحول يستلزم الإجحاف بالأغنياء ، وإيجابها فيما فوق الحول يستلزم الضرر في حق الفقراء، فكان من حكمة الشرع أن يقدر لها زمناً معيناً تجب فيه وهو الحول ، وفي ربط ذلك بالحول توازن بين حق الأغنياء وحق أهل الزكاة ، وعلى هذا فلو مات الإنسان مثلاً أو تلف المال قبل تمام الحول سقطت الزكاة، إلا أنه يستثنى من تمام الحول ثلاثة أشياء : ربح التجارة ، ونتاج السائمة ، والمعشرات.
أما ربح التجارة : فإن حوله حول أصله ، وأما نتاج السائمة : فحول النتاج حول الأمهات، وأما المعشرات فحولها تحصيلها أي وقت تحصيلها مثال ذلك في الربح : أن يشتري الإنسان سلعة بعشرة آلاف ريال، ثم قبل تمام حول الزكاة بشهر تزيد هذه السلعة أو تربح نصف الثمن الذي اشتراها به ، فيجب عليه زكاة رأس مال وزكاة ربح وإن لم يتم للربح حول ، لأنه فرع ، والفرع يتبع الأصل .
وأما النتاج : فمثل أن يكون عند الإنسان من البهائم نصاب ، ثم في أثناء الحول يتوالد هذا النصاب حتى يبلغ نصابين ، فيجب عليه الزكاة للنصاب الذي حصل بالنتاج وإن لم يتم عليه الحول ، لأن النتاج فرع فيتبع الأصل.
وأما المعشرات : فحولها حين أخذها مثل الحبوب والثمار، فإن الثمار في النخل مثلاً لا يتم عليه الحول حتى يجذّ ، فتجب الزكاة عند جذه، وكذلك الزرع يزرع ويحصد قبل أن يتم عليه الحول ، فتجب عليه الزكاة عند حصاده، لقول الله تعالى : ( وَآتُوا حَقَّهُ يَوْمَ حَصَادِهِ )(الأنعام: 141).
فهذه الأشياء الثلاثة تستثنى من قولنا إنه يشترط لوجوب الزكاة تمام الحول.
مال المملوك هل يعفى من الزكاة
السؤال (114): فضيلة الشيخ، ذكرتم من شروط وجوب الزكاة وعددتم منها أن يكون مالك المال حراً ، وتحدثتم عن مال المملوك وأن المملوك لا يؤدي أو لا يجب عليه زكاة ، لأن المال مال مالكه ، لكن : هل يعفى المال من التزكية أم يدفع المالك من المال؟
الجواب : زكاة المال الذي عند المملوك على مالكه، لأنه هو مالك المال كما أسلفنا من قول الرسول عليه الصلاة والسلام : "من باع عبداً له مال فماله للذي باعه إلا أن يشترط المبتاع"(131) ، وعلى هذا فتكون الزكاة على مالك المال، وليس على المملوك منها شيء ، ولا يمكن أن تسقط الزكاة عن هذا المال.
الأصناف التي تجب فيها الزكاة ومقدار كل نوع
السؤال (115): فضيلة الشيخ ، ما هي الأموال التي تجب فيها الزكاة ، ومقدار الزكاة في كل نوع منها؟
الجواب : الأموال التي تجب فيها الزكاة هي :
أولاً : الذهب والفضة ، والزكاة فيهما واجبة بالإجماع من حيث الجملة ، لقوله تعالى : (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّ كَثِيراً مِنَ الْأَحْبَارِ وَالرُّهْبَانِ لَيَأْكُلُونَ أَمْوَالَ النَّاسِ بِالْبَاطِلِ وَيَصُدُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ وَالَّذِينَ يَكْنِزُونَ الذَّهَبَ وَالْفِضَّةَ وَلا يُنْفِقُونَهَا فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَبَشِّرْهُمْ بِعَذَابٍ أَلِيمٍ) (34) (يَوْمَ يُحْمَى عَلَيْهَا فِي نَارِ جَهَنَّمَ فَتُكْوَى بِهَا جِبَاهُهُمْ وَجُنُوبُهُمْ وَظُهُورُهُمْ هَذَا مَا كَنَزْتُمْ لانْفُسِكُمْ فَذُوقُوا مَا كُنْتُمْ تَكْنِزُونَ) (التوبة:34-35) .
وكنز الذهب والفضة هو ألا يخرج الإنسان ما أوجب الله عليه فيه من زكاة أو غيرها، وإن كان ظاهراً على سطح الأرض، وإذا أخذ الإنسان ما يجب لله فيه من الزكاة وغيرها فهو غير كنز وإن دفن في الأرض ، ولقول النبي صلى الله عليه وسلم فيما رواه مسلم من حديث أبي هريرة : " ما من صاحب ذهب ولا فضة لا يؤدي منها حقها إلا إذا كان يوم القيامة صفحت له صفائح من نار، وأحمي عليها في نار جهنم ، فيكوى بها جنبه وجبينه وظهره ، كلما بردت أعيدت له، في يوم كان مقداره خمسين ألف سنة، حتى يقضى بين العباد، فيرى سبيله إما إلى الجنة وإما إلى النار(132).
والزكاة في الذهب والفضة واجبة على أي حال كان ، سواء كانت دراهم من الفضة ودنانير من الذهب ، أو كانت تبراً أي قطعاً من الذهب أو كانت قطعاً من الفضة، أو كانت حلياً يستعمل أو لا يستعمل، لعموم الأدلة الواردة في ذلك ، ولقول النبي صلى الله عليه وسلم في خصوص الحلي حين أتته امرأة معها ابنة لها ، وفي يد ابنتها مسكتان غليظتان من ذهب، فقال لها رسول الله صلى الله عليه وسلم : "أتؤدين زكاة هذا ؟" قالت : لا . قال : " أيسرك أن يسورك الله بهما سوارين من نار". فخلعتهما وألقتهما إلى النبي صلى الله عليه وسلم ، وقالت : هما لله ورسوله(133). وهذا نص صريح في وجوب الزكاة في الحلي ولو كان ملبوساً . وإنما وجه النبي صلى الله عليه وسلم الخطاب إلى أم البنت لأنها هي ولية أمرها.
وهذه المسألة فيها خلاف بين العلماء أعني مسألة الحلي ولكن الراجح ما قلناه، لأن الأحاديث عامة ، والأحاديث الخاصة فيها جيدة ، بل صححها بعضهم ، ولا شك أنها تقوم بها الحجة، لأنه يشهد بعضها لبعض، والأصل وجوب الزكاة في الذهب والفضة حتى يقوم دليل على التخصيص.
والواجب في الذهب والفضة ربع العشر، أي واحد من أربعين، وطريقة استخراج ذلك أن تقسم ما عندك على أربعين ، فما خرج من القسمة فهو الزكاة ، فإذا كان عند الإنسان أربعون ألفاً من الفضة ، أي أربعون ألف درهم ، فليقسم الأربعين على أربعين ، يخرج واحد فهو الزكاة.
وكذلك لو كان عنده أربعون ديناراً ، أن يقسم الأربعين على أربعين يخرج واحد أي دينار واحد فهو الواجب ، وعلى هذا فقس، قل المال أو كثر ، بشرط أن يبلغ النصاب.
نصاب الذهب خمسة وثمانون جراماً (85) وتساوي عشرة جنيهات سعودية ونصف وزيادة قليلة ، يعني خمسة من ثمانية ، فإذا كان الذهب تبلغ زنته هذا وجبت فيه الزكاة ، وإن كان دون ذلك لم تجب فيه الزكاة .
أما الفضة فنصابها مائة وأربعون مثقالاً ، وهي أيضاً خمسمائة وخمسة وتسعون جراماً (595)، وتساوي بالدراهم دراهم الفضة السعودية ستة وخمسين ريالاً ، أي ما يزن ستة وخمسين ريالاً من ريال الفضة السعودية ، فإذا بلغ عند الإنسان من الفضة ما يزن ذلك، فقد وجبت فيه الزكاة ، ومادون هذا لا زكاة فيه.
وليعلم أن القول الراجح من أقوال أهل العلم ، أن الذهب لا يضم إلى الفضة في تكميل النصاب، لأنهما جنسان مختلفان ، وهما وإن اتفقا في المنفعة والغرض ، فإن ذلك لا يقتضي ضم أحدهما إلى الآخر في تكميل النصاب، لأن الشارع قدر لكل واحد منهما نصاباً معيناً يقتضي ألا تجب الزكاة فيما دونه ، ولم يأت عن النبي صلى الله عليه وسلم نص بضم أحدهما إلى الآخر ، وكما أن البر لا يضم إلى الشعير في تكميل النصاب مع أن مقصودهما واحد، فكذلك الذهب والفضة.
وبناء على ذلك : لو كان عند الإنسان نصف نصاب من الذهب ، ونصف نصاب من الفضة ، لم تجب عليه الزكاة في واحد منهما، لما ذكرنا من أنه لا يضم الذهب إلى الفضة في تكميل النصاب .
ويلحق بالذهب والفضة ما جعل بدلاً عنهما في كونه نقداً يتعامل به ، كالأوراق النقدية المعروفة بين الناس اليوم ، فإذا كان عند الإنسان من هذه الأوراق ما تساوي قيمتيه نصاباً من الذهب أو الفضة، فإن الزكاة تجب عليه فيها، لأنها نقود وليست عروض تجارة، إذ إنها هي قيم الأشياء التي تقدر بها ، وهي وسيلة التبادل بين الناس ، فكانت كالدنانير والدراهم وليست كعروض التجارة كما زعمه بعضهم.
وليعلم أن الزكاة في الذهب والفضة واجبة وإن كان الإنسان قد ادخرهما لنفقاته وحاجاته ، فإذا كان عند الإنسان عشرة آلاف درهم ، أعدها لشراء بيت يسكنه، فإن الزكاة واجبة فيها ولو بقيت سنوات ، وكذلك لو كان قد أعدها ليتزوج بها فإن الزكاة واجبة فيها ولو بقيت سنة أو أكثر.
المهم أن الزكاة واجبة في عين الذهب والفضة ، فتجب فيهما بكل حال ، وما يظنه بعض الناس من أن الدراهم إذا أعدت للنفقة ، أو لحاجة الزواج ونحوه لا زكاة فيها ، فإنه ظن خاطئ لا أصل له ، لا في الكتاب ، ولا في السنة ، ولا في أقوال أهل العلم ، وهذا بخلاف العروض ، فإن العروض هي التي يشترط فيها نية التجارة ، أما الذهب والفضة فالزكاة في أعيانهما فتجب فيهما بكل حال.
هذا أحد الأموال التي تجب فيها الزكاة ، وهو الذهب والفضة .
الثاني : الخارج من الأرض من الحبوب والثمار ، لقول الله تعالى: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَنْفِقُوا مِنْ طَيِّبَاتِ مَا كَسَبْتُمْ وَمِمَّا أَخْرَجْنَا لَكُمْ مِنَ الْأَرْضِ )(البقرة:267) ، ولقول النبي صلى الله عليه وسلم : " فيما سقت السماء العشر، وفيما سقي بالنضح نصف العشر"(134)، ولقول النبي صلى الله عليه وسلم " ليس فيما دون خمسة أوسق صدقة"(135) ، فتجب الزكاة في الخارج من الأرض من الحبوب والثمار ، من الحبوب : كالبر والذرة ، والأرز وغيرها.
ومن الثمار : كالنخيل والأعناب التي تزبب ويحصل منها الزبيب ، وأما الأعناب التي لا تزبب ففيها خلاف بين العلماء، فمنهم من قال : إنه لا زكاة فيها ، لأنها ملحقة بالفواكه، في كالبرتقال والتفاح ، ومنهم من قال : إنها تجب فيها الزكاة اعتباراً بأصل العنب، لأن أصل العنب أن يزبب ، فهو شبيه بثمار النخيل، أي شبيه بالتمر، والاحتياط أن يخرج الإنسان الزكاة منه ، وأما ما ليس بحبوب ولا ثمار ، يكال ويدخر ، مثل الفواكه على اختلاف أنواعها ، والخضروات على اختلاف أنواعها، فإنه لا زكاة فيها ولو كثرت.
ومقدار الزكاة في الحبوب والثمار العشر، أي : عشرة في المائة إذا كانت تسقى بلا مؤونة، كالذي يشرب بعروقه، لكون الأرض رطبة ، أو الذي يشرب بالطل ، أو الذي يشرب بالأنهار ، أو الذي يشرب بالقنوات التي تضرب في الأرض ثم ينبع منها الماء، هذا كله يجب فيه العشر، لأنه لا مؤونة في استخراج الماء الذي يسقى به، وأما إذا كان يسقى بمؤونة ، كالذي يسقى بالسواني أو بالمكائن أو بالغرافات ، أو ما أشبهها ، فإن الواجب فيه نصف العشر ، فأسقط الشارع عنه نصف العشر مراعاة لحاله، ونصف العشر خمسة في المائة ، فإذا قدرنا أن هذه المزرعة أنتجت خمسة آلاف صاع ، كان الواجب فيها إذا كان الزرع يسقى بلا مؤونة خمسمائة صاع ، وإذا كان يسقى بمؤونة كان الواجب مائتين وخمسين صاعاً ، وعلى هذا فقس.
ولكن لا تجب الزكاة في الحبوب والثمار حتى تبلغ نصاباً، والنصاب خمسة أوسق، والوسق ستون صاعاً بصاع النبي صلى الله عليه وسلم ، فيكون مجموع الآصع ثلاثمائة صاع بصاع النبي صلى الله عليه وسلم، فما دون ذلك فلا زكاة فيه، لقول النبي صلى الله عليه وسلم : " ليس فيما دون خمسة أوسق صدقة"(136).
هذان مالان مما تجب فيهما الزكاة.
زكاة الفواكه والخضروات إذا بيعت
السؤال (116): فضيلة الشيخ، بالنسبة للفواكه التي لا زكاة فيها ، هل إذا باعها الإنسان وجب عليه الزكاة في قيمتها"؟.
الجواب : هذه الفواكه والخضروات لا زكاة فيها ، ولكن الإنسان إذا باعها ، فإن في ثمنها الزكاة إن بقي حتى تم عليه الحول وكان من النقدين، الذهب والفضة أو ما جرى مجراهما، أما لو باعها بعروض ، مثل أن باعها بسيارات أو بأقمشة أو بأواني ، فإنه لا زكاة فيها أيضاً ما لم ينو التجارة بما جعله بدلاً ، فإن نوى التجارة كانت الزكاة واجبة وجوب زكاة العروض التي سنتكلم عنها إن شاء الله تعالى فيما بعد.
تابع الأصناف التي تجب فيها الزكاة
ومن الأموال الزكوية التي تجب فيها الزكاة : بهيمة الأنعام ، وهي الإبل والبقر والغنم، ولكن يشترط لوجوب الزكاة فيها شرطان : الشرط الأول : أن تكون معدة للدر والنسل والتسمين، لا للبيع والشراء .
والشرط الثاني : أن تكون سائمة الحول أو أكثره، يعني أن تتغذى على السوم- وهو الرعي - الحول أو أكثره.
فإن كانت غير معدة للدر والتسمين ، وإنما هي معدة للاتجار والتكسب، فهي عروض التجارة ، وسيأتي الكلام عليها إن شاء الله تعالى ، وإن كانت معدة للدر والتسمين، ولكنها تعلف فإنها لا زكاة فيها ، فلو كان عند الفلاح عشرون بعيراً أبقاها للتناسل وللدر والتسمين وللقنية، فإنها لا زكاة عليها في ذلك مادام يعلفها أكثر الحول لحديث أنس بن مالك رضي الله عنه، فيما كتبه أبو بكر الصديق رضي الله عنه في فريضة الصدقة التي فرضها رسول الله صلى الله عليه وسلم وأمر بها رسوله صلى الله عليه وسلم قال : "في الغنم في سائمتها"(137). وفي حديث بهز بن حيكم عن أبيه عن جده : " في الإبل في سائمتها"(138). وهذا يدل على أن غير السائمة ليس فيها زكاة وهو كذلك .
وأما مقدار الزكاة في البهائم - أي بهيمة الأنعام - فإنه يختلف ، وذلك لأن الأنصبة في بهيمة الأنعام مقدرة ابتداء وانتهاء ، ولكل قدر منها واجب خاص به ، فمثلاً في الغنم في كل أربعين شاة شاة واحدة ، وفي مائة وإحدى وعشرين شاتان ، فما بين الأربعين إلى مائة وعشرين ليس فيها إلا شاة واحدة ، وفي مائتين وواحدة ثلاث شياه، فما بين مائة وإحدى وعشرين إلى مائتين ليس فيه إلا شاتان ، ثم في كل مائة شاة ، ففي مائتين وواحدة ثلاث شياه، وفي ثلاثمائة وواحدة ثلاث شياه، وفي أربعمائة أربع شياه، وهلم جرا ، ولهذا لا يمكن أن نحدد الواجب في بهيمة الأنعام ، وذلك لاختلاف الأنصبة ابتداء وانتهاء ، ومرجع ذلك إلى كتب الحديث وأهل الفقه.
أما غير السائمة ، كالخيل والحمير والبغال ، فهذه لا زكاة فيها ولو كثرت ، ولو سامت، إذا لم تكن للتجارة ، لقول النبي صلى الله عليه وسلم : "ليس على المسلم في عبده ولا فرسه صدقة"(139).
فلو كان عند الإنسان مائة فرس يعدها للركوب والجهاد وغير ذلك من المصالح ، فإنه لا زكاة عليه فيها ولو كانت تساوي دراهم كثيرة. إلا إن كان يتّجر في الخيل، يبيع ويشتري، ويتكسب ، فعليه فيها زكاة العروض. هذه ثلاثة أموال تجب فيها الزكاة ، النقدان وهما الذهب والفضة ، والخارج من الأرض ، والثالث بهيمة الأنعام.
الرابع : عروض التجارة ، وعروض التجارة هي الأموال التي عند الإنسان يريد بها التكسب، ولا تختص بنوع معين من المال، بل كل ما أراد به الإنسان التكسب من أي نوع كان من المال ففيه الزكاة ، سواء كان المال عقاراً ، أو حيواناً ، أو مملوكاً من الآدميين ، أو سيارات أو أقمشة ، أو أواني ، أو أطياب ، أو غير ذلك ، المهم كل ما أعده الإنسان للتجارة والتكسب ففيه الزكاة ، ودليل ذلك عموم قوله تعالى : (وَالَّذِينَ فِي أَمْوَالِهِمْ حَقٌّ مَعْلُومٌ) (24) (لِلسَّائِلِ وَالْمَحْرُومِ) (المعارج:24-25) ، وقول النبي صلى الله عليه وسلم في حديث معاذ بن جبل حين بعثه إلى اليمن : "أعلمهم أن الله افترض عليهم صدقة في أموالهم تؤخذ من أغنيائهم فترد على فقرائهم(140) ، فالأصل في الأموال وجوب الزكاة إلا ما دل عليه الدليل، والقول ولقول النبي صلى الله عليه وسلم : "إنما الأعمال بالنيات، وإنما لكل امرئ ما نوى"(141).
وصاحب العروض إنما نوى قيمة العروض ، ليس له حاجة أو غرض في نفس العروض بدليل أنه يشتري السلعة في أول النهار ، فإذا ربحت في آخر النهار باعها ، وليس كالإنسان المقتني للسلع الذي يبقيها عنده سواء زادت أم نقصت، فإذن يكون مراد هذا المالك هو القيمة ، وهي الذهب والفضة أو ما جرى مجراهما ، وقد قال النبي صلى الله عليه وسلم : "إنما الأعمال بالنيات وإنما لكل امرئ ما نوى".
ولأننا لو قلنا بعدم وجوب الزكاة في العروض لسقطت الزكاة عن كثير من أموال التجار، لأن غالب أموال التجار التي يتجرون بها إنما هي عروض التجارة.
هذه أربعة أنواع من المال تجب فيها الزكاة ، واختلف العلماء في العسل، هل تجب فيه الزكاة أو لا تجب ؟ فمنهم من قال لا تجب الزكاة فيه ، ومنهم من قال : إنها تجب ، واستدلوا بأثر عمر بن الخطاب رضي الله عنه ، والمسألة عندي محل توقف ، والعلم عند الله.
وبناء على ذلك : فإنه لا زكاة على الإنسان فيما يقتنيه من الأواني والفرش ، والمعدات ، والسيارات ، والعقارات ، وغيرها ، حتى وإن أعده للإجارة ، فلو كان عند الإنسان عقارات كثيرة تساوي قيمتها الملايين ، ولكنه لا يتجر بها ، أي لا يبيعها ويشتري بدلها للتجارة مثلاُ ، وإنما أعدها للاستغلال ، فإنه لا زكاة في هذه العقارات ولو كثرت، وإنما الزكاة فيما يحصل منها من أجرة أو نماء ، فتجب الزكاة في أجرتها إذا تم عليها الحول من العقد، فإن لم يتم عليها الحول فلا زكاة فيها ، لأن هذه الأشياء - ما عدا الأصناف الأربعة السابقة - الأصل فيها براءة الذمة حتى يقوم دليل على الوجوب ، بل قد دل الدليل على أن الزكاة لا تجب فيها ، في قول النبي صلى الله عليه وسلم " ليس على المؤمن في عبده ولا فرسه صدقة"(142). فإنه يدل على أن ما اختصه الإنسان لنفسه من الأموال غير الزكوية ليس فيه صدقة ، أي ليس فيه زكاة ، والأموال التي أعدها الإنسان للاستغلال من العقارات وغيرها لا شك أن الإنسان قد أرادها لنفسه ولم يردها لغيره ، لأنه لا يبيعها بل يستبقيها للاستغلال والنماء.
تقدير قيمة الأراضي لإخراج زكاتها
السؤال (117): فضيلة الشيخ، لكن بالنسبة للأراضي التي اشتراها أصحابها، وكسدت في أيديهم نظراً لقلة قيمتها ، فهم يقدرونها بتقديرات عالية ، مع أنها لا تساوي إلا القليل في السوق ، فكيف تزكى هذه الأراضي؟
الجواب : الأراضي التي اشتراها أهلها للتجارة كما هو الغالب ينتظرون بها الزيادة هذه عروض تجارة ، وعروض التجارة تقوّم عند حول الزكاة بما تساوي ، ثم يخرج ربع الشعر منها ، لأن العبرة بقيمتها ، وقيمتها من الذهب والفضة، والذهب والفضة زكاتهما ربع العشر، ولا فرق بين أن تكون قيمة هذه الأراضي تساوي قيمة ما اشتريت به أو لا ، فإذا قدرنا أن رجلاً اشترى أرضاً بمائة ألف وكانت عند الحول تساوي مائتي ألف، فإنه يجب عليه أن يزكي عن المائتين جميعاً ، وإذا كان الأمر بالعكس ، اشترها بمائة ألف وكانت عند تمام الحول تساوي خمسين ألفاً فقط ، فإنه لا يجب عليه أن يزكي إلا عن خمسين ألفاً ، لأن العبرة بقيمتها عند وجوب الزكاة.
فإن شك الإنسان لا يدري: هل تزيد قيمتها عما اشتراها به أو تنقص ، أو هي هي ، فالأصل عدم الزيادة وعدم النقص ، فيقومها بثمنها الذي اشتراها به ، فإذا قدرنا أن هذه الأرض التي اشتراها بمائة ألف تساوي عند تمام الحول إن طلبت مائة وعشرين ، وتساوي إن جلبت ثمانين ألفاً ، وهو متردد ، نقول : قومها بما اشتريتها به ، لأن الأصل عدم الزيادة والنقص، ولكن يشكل على كثير من الناس اليوم أن عندهم أراضي كسدت في أيديهم ، ولا تساوي شيئاً ، بل إنهم يعرضونها للبيع ولا يجدون من يشتريها ، فكيف تزكى هذه الأراضي؟ نقول : إن كان عند الإنسان أموال يمكن أن يزكى منها - من الأموال التي عنده - أدى زكاتها من أمواله التي عنده ، وإن لم يكن عنده إلا هذه الأراضي الكاسدة، فإن له أن يأخذ ربع عشرها ويوزعها على الفقراء إن كانت في مكان يمكن أن ينتفع بها الفقير ويعمرها، وإلا فليقيد قيمتها وقت وجوب الزكاة ليخرج زكاتها فيما بعد إذا باعها.
وتكون هذه الأراضي مثل الدين الذي عند شخص فقير لا يستطيع الوفاء ، فالزكاة لا تجب عليه إلا إذا قبضها ، أي إلا إذا قبض الدين ، والصحيح أنه إذا قبض الدين من مدين معسر، فإنه يزكيه سنة واحدة فقط ولو كان قد بقي سنين كثيرة عند الفقير. ويمكن أن يقال في هذه الأراضي التي كسدت ولم يجد من يشتريها ، يمكن أن يقال : إنه لا يزكيها إلا سنة واحدة ، سنة البيع ، ولكن الأحوط إذا باعها أن يزكيها لكل ما مضى من السنوات، لأن الفرق بينها وبين الدين أن هذه ملكه بيده ، والدين في ذمة فقير خربت لكونه أعسر.
تزكية الديون التي في ذمم الناس
السؤال (118): فضيلة الشيخ ، كيف تزكى الديون التي في ذمم الناس؟
الجواب : الديون التي في ذمم الناس ، سواء كانت ثمن مبيع ، أو أجرة ، أو قرضاً ، أو قيمة متلف ، أو أرش جناية، أو غير ذلك مما يثبت في الذمة ، تنقسم إلى قسمين :
الأول : أن تكون مما لا تجب الزكاة في عينه ، كالعروض ، بأن يكون عند الإنسان لشخص ما مائة صاع من البر أو أكثر ، فهذا الدين لا زكاة فيه ، وذلك لأن الزروع أو -الحبوب -لا تجب الزكاة في عينها إلا لمن زرعها.
وأما الثاني: فهي الديون التي تجب الزكاة في عينها كالذهب والفضة ، وهذا فيه الزكاة على الدائن ، لأنه صاحبه ويملك أخذه والإبراء منه ، فيزكيه كل سنة ، إن شاء زكاه مع ماله ، وإن شاء قيد زكاته وأخرجها إذا قبضه ، فإذا كان عند شخص لآخر مائة ألف فإن من له المائة يزكيها كل عام ، أو فإن الزكاة تجب على من هي له كل عام . لكن هو بالخيار، إما أن يخرج زكاتها مع ماله ، وإما أن ينتظر حتى يقبضها ثم يزكيها لما مضى ، هذا إذا كان الدين على موسر باذل ، فإن كان الدين على معسر ، فإن الصحيح أن الزكاة لا تجب فيه ، لأن صاحبه لا يملك المطالبة به شرعاً ، فإن الله تعالى يقول : (وَإِنْ كَانَ ذُو عُسْرَةٍ فَنَظِرَةٌ إِلَى مَيْسَرَةٍ )(البقرة: 280) ، فهو في الحقيقة عاجز شرعاً عن ماله ، فلا تجب عليه الزكاة فيه ، لكن إذا قبضه فإنه يزكيه سنة واحدة فقط وإن بقي في ذمة المدين عشر سنوات، لأن قبضه إياه يشبه تحصيل ما خرج من الأرض ، يزكى عند الحصول عليه .
وقال بعض أهل العلم: لا يزكيه لما مضى ، وإنما يبتدئ به حولاً من جديد. وما ذكرناه أحوط وأبرأ للذمة ، أنه يزكيه سنة واحدة لما مضى ثم يستأنف به حولاً ، والأمر في هذا سهل ، وليس من الصعب على الإنسان أن يؤدي ربع العشر من دينه الذي قبضه بعد أن أيس منه ، فإن هذا من شكر نعمة الله عليه بتحصيله .
هذا هو القول في زكاة الديون وخلاصته : أنها ثلاثة أقسام : قسم لا زكاة فيه ، وهو ما إذا كان الدين مما لا تجب الزكاة في عينه، مثل أن يكون في ذمة شخص لآخر أصواع من البر، أو كيلوات من السكر أو الشاي أو ما أشبه ذلك ، فهذا لا زكاة فيه ، فما دام الدين مما لا تجب الزكاة في عينه ، فلا زكاة فيه ولو كان عنده مئات الأصواع.
والقسم الثاني : الدين الذي تجب الزكاة في عينه ، كالذهب والفضة ولكنه على معسر، فهذا لا زكاة فيه إلا إذا قبضه ، فإنه يزكيه لسنة واحدة ثم يستأنف فيه حولاً ، وقيل : إنه يستأنف فيه حولاً على كل حال ، ولكن ما قلناه أولى لما ذكرنا من التعليل.
القسم الثالث : ما تجب فيه الزكاة كل عام ، وهو الدين الذي تجب فيه الزكاة في عينه ، وهو على موسر باذل ، فهذا فيه الزكاة كل عام ، لكن إن شاء صاحب الدين أن يخرج زكاته مع ماله ، وإن شاء أخرها حتى يقبضه من المدين .
خرص عروض التجارة
السؤال (119) : فضيلة الشيخ ، هل يجوز خرص التجارة أو عروض التجارة إذا تعذر إحصاؤها أو شق على التجار؟
الجواب : لا يجوز خرصها ، لأن الخرص إنما ورد في الثمار، وألحق به بعض العلماء الزروع ، وأما الأموال فلا يمن خرصها ، لأنها أنواع متعددة، لكن على الإنسان أن يتحرى ما استطاع ، وأن يحتاط لنفسه ، فإذا قدر أن هذه البضاعة تبلغ قيمتها مائة ويحتمل أن تكون مائة وعشرين ، فليخرج عن مائة وعشرين إبراء لذمته.
الزكاة في مال الصغير والمجنون
السؤال (120): فضيلة الشيخ ، هل تجب الزكاة في مال غير المكلف ، كالصغير والمجنون؟
الجواب : هذا فيه خلاف بين العلماء ، فمنهم من قال : إن الزكاة في مال الصغير والمجنون غير واجبة نظراً إلى تغليب التكليف بها ، ومعلوم أن الصغير والمجنون ليسا من أهل التكليف فلا تجب الزكاة في مالهما.
ومنهم من قال : بل الزكاة واجبة في مالهما، وهو الصحيح نظراً لأن الزكاة من حقوق المال، لا ينظر فيها إلى المالك ، لقول الله تعالى: (خُذْ مِنْ أَمْوَالِهِمْ صَدَقَةً تُطَهِّرُهُمْ )(التوبة: 103) ، فقال (خُذْ مِنْ أَمْوَالِهِمْ ) - فجعل مناط الحكم أو موضع الوجوب : المال.
ولقول النبي صلى الله عليه وسلم لمعاذ بن جبل حين بعثه إلى اليمن : " أعلمهم أن الله افترض عليهم صدقة في أموالهم ، تؤخذ من أغنيائهم فترد على فقرائهم"(143). وعلى هذا فتجب الزكاة في مال الصبي والمجنون ، ويتولى إخراجها وليهما.
مصارف الزكاة
السؤال (121): فضيلة الشيخ ، ما هي المصارف التي يجب أن تصرف فيها الزكاة؟
الجواب : المصارف التي يجب أن تصرف فيها الزكاة ثمانية بينها الله تعالى بياناً شافياً كافياً ، وأخبر عز وجل أن ذلك فريضة ، وأنه مبنى على العلم والحكمة، فقال جل ذكره: (إِنَّمَا الصَّدَقَاتُ لِلْفُقَرَاءِ وَالْمَسَاكِينِ وَالْعَامِلِينَ عَلَيْهَا وَالْمُؤَلَّفَةِ قُلُوبُهُمْ وَفِي الرِّقَابِ وَالْغَارِمِينَ وَفِي سَبِيلِ اللَّهِ وَابْنِ السَّبِيلِ) (التوبة:60) ، قال الله تعالى بعد ( فَرِيضَةً مِنَ اللَّهِ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ)(التوبة:60) .
فهؤلاء أصناف أهل الزكاة الذين تدفع إليهم ، وهم ثمانية كالتالي:
الفقراء والمساكين: وهؤلاء يعطون من الزكاة لدفع ضرورتهم وحاجتهم.
والفرق بين الفقراء والمساكين : أن الفقراء أشد حاجة ، لا يحد الواحد منهم ما يكفيه وعائلته لنصف سنة ، والمساكين أعلى حالاً من الفقراء ، لأنهم يجدون نصف الكفاية فأكثر دون كمال الكفاية . هؤلاء يعطون لحاجتهم ، ولكن كيف نقدر الحاجة؟ قال العلماء : يعطون لحاجتهم ما يكفيهم وعائلتهم لمدة سنة ، ويحتمل أن يعطون ما يكونون به أغنياء، لكن الذين قدروا ذلك بسنة قالوا: لأن السنة إذا دارت وجبت الزكاة في الأموال ، فكما أن الحول هو تقدير الزمن الذي تجب فيه الزكاة ، فكذلك ينبغي أن يكون الحول هو تقدير الزمن الذي تدفع فيه حاجة الفقراء والمساكين الذين هم أهل الزكاة . وهذا قول حسن جيد ، أي أننا نعطي الفقير والمسكين ما يكفيه وعائلته لمدة عام كامل ، سواء أعطيناه أعياناً من أطعمة وألبسة ، أو أعطيناه نقوداً يشتري بها هو ما يناسبه ، أو أعطيناه صنعة إذا كان يحسن الصنعة ، يعني آلة يصنع بها إذا كان يحسن الصنعة ، كخياط ونجار ، وحداد ونحوه ، المهم أن نعطيه ما يكفيه وعائلته لمدة سنة.
الثالث : العاملون عليها : أي الذين لهم ولاية عليها من قبل ولي الأمر ، ولهذا قال : " والعاملين عليها" ولم يقل : العاملون فيها ، إشارة إلى أن لهم نوع ولاية ، وهم جباتها الذين يجبونها من أهلها ، وقسامها الذين يقسمونها في أهلها ، وكتابها ونحوهم، فهؤلاء عاملون عليها يعطون من الزكاة، ولكن : كم يعطون؟ ننظر : هم عاملون عليها ، فهم مستحقون بوصف العمالة ، ومن استحق بوصف أعطي بقدر ذلك الوصف ، وعليه فيعطون من الزكاة بقدر عمالتهم فيها ، سواء كانوا أغنياء أم فقراء ، لأنهم يأخذون الزكاة لعملهم لا لحاجتهم ، وعلى هذا فيعطون ما يقتضيه العمل من الزكاة ، فإن قدر أن العاملين عليها فقراء، فإنهم يعطون بالعمالة ويعطون بالفقر كذلك ، فيعطون ما يكفيهم لمدة سنة لفقرهم .
فهؤلاء يأخذون لعمالتهم أيضاً ، لأنهم استحقوا الصدقة أو الزكاة بوصفين : العمالة عليها ، والفقر ، فيعطون بكلا الوصفين ، ولكن إذا أعطيناهم للعمالة فيبقون أغنياء بقدر ما أخذوا من العمالة، فنكمل لهم المؤونة لمدة سنة ، مثال ذلك : إذا قدرنا أنه يكفيهم لمدة سنة عشرة آلاف ريال ، وأننا إذا أعطيناهم لفقرهم أخذوا عشرة آلاف ريال ، وأن نصيبهم من العمالة ألفا ريال، فعلى هذا نعطيهم ألفي ريال للعمالة ، ونعطيهم ثمانية آلاف ريال للفقر، هذا وجه قولنا : يعطون كفايتهم لمدة سنة ، لأنهم إذا أخذوا بالعمالة صاروا لا يحتاجون إلا ما زاد على استحقاقهم العمالة لمدة سنة .
الرابع : المؤلفة قلوبهم: وهم الذين يعطون لتأليفهم على الإسلام ، إما كافر يرجى إسلامه ، وإما مسلم نعطيه لتقوية الإيمان في قلبه، وإما شرير نعطيه لدفع شره عن المسلمين ، أو نحو ذلك ممن يكون في تأليفه مصلحة للمسلمين، ولكن هل يشترط في ذلك أن يكون سيداً مطاعاً في قومه حتى يكون في تأليفه مصلحة عامة؟ أو يجوز أن يعطى لتأليفه ولو لمصلحة شخصية كرجل دخل في الإسلام حديثاً يحتاج إلى تأليفه وتقوية إيمانه بإعطائه؟
هذا محل خلاف بين العلماء ، والراجح عندي أنه لا بأس أن يعطى لتأليفه على الإسلام بتقوية إيمانه ، وإن كان يعطى بصفة شخصية وليس سيداً في قومه لعموم قوله تعالى: (وَالْمُؤَلَّفَةِ قُلُوبُهُمْ) ولأنه إذا جاز أن نعطي الفقير لحاجته البدنية الجسمية ، فإعطاؤنا هذا الضعيف الإيمان لتقويه إيمانه من باب أولى ، لأن تقوية الإيمان بالنسبة لشخص أهم من غذاء الجسد.
هؤلاء الأربعة يعطون الزكاة على سبيل التمليك ، ويملكونها ملكاً تاماً ، حتى لو زال الوصف منهم في أثناء الحول لم يلزمهم رد الزكاة بل تبقى حلالاً لهم ، لأن الله عبر عن استحقاقهم باللام، فقال: (إِنَّمَا الصَّدَقَاتُ لِلْفُقَرَاءِ وَالْمَسَاكِينِ وَالْعَامِلِينَ عَلَيْهَا وَالْمُؤَلَّفَةِ قُلُوبُهُمْ) (التوبة:60) ، فأتى باللام ، وفائدة ذلك أن الفقير لو استغنى في أثناء الحول فإنه لا يلزمه رد الزكاة ، مثل : لو أعطيناه عشرة آلاف لفقره وهي تكفيه لمدة سنة ، ثم إن الله تعالى أغناه في أثناء الحول باكتساب مال أو موت قريب له يرثه ، أو ما أشبه ذلك ، فإنه لا يلزمه رد ما بقي من المال الذي أخذه من الزكاة لأنه ملكه.
أما الخامس من أهل الزكاة : فهم الرقاب ، لقوله تعالى: (وَفِي الرِّقَابِ) . والرقاب فسرها العلماء بثلاثة أشياء : الأول : مكاتب اشترى نفسه من سيده بدراهم مؤجلة في ذمته ، فيعطى ما يوفي به سيده ، والثاني : رقيق مملوك اشتري من الزكاة ليعتق ، والثالث : أسير مسلم أسره الكفار، فيعطى الكفار من الزكاة لفكهم هذا الأسير ، ومثله أيضاً الاختطاف ، فلو اختطف المسلمَ أحد من المسلمين أو الكفار فلا بأس أن يفدى هذا المختطِف بشيء من الزكاة، لأن العلة واحدة وهي فكاك المسلم من الأسر ، وهذا إذا لم يمكننا أن نرغم المختطف على فكاكه بدون بذل المال، إذا كان المختطِف من المسلمين.
والصنف السادس من أهل الزكاة : الغارمين : الغارم هو المدين ، وقسم العلماء -رحمهم الله - الغرم إلى قسمين : الأول : غرم لإصلاح ذات البين ، وغرم لسداد الحاجة، أما الغرم لإصلاح ذات البين فمثلوا له بأن يقع بين قبيلتين تشاحن وتشاجر أو حروب ، فيأتي رجل من أهل الخير والجاه واشرف والسؤدد ويصلح بين هاتين القبيلتين بدراهم يتحملها في ذمته، فإننا نعطي هذا الرجل المصلح الدراهم التي تحملها من الزكاة ، جزاء له على هذا العمل الجليل الذي قام به ، والذي فيه إزالة الشحناء والعداوة بين المؤمنين وحقن دماء الناس ، وهذا يعطى سواء كان غنياً أم فقيراً ، لأننا لسنا نعطيه لسد حاجته ، ولكننا نعطيه لما قام به من المصلحة العامة.
أما الثاني فهو الغارم لنفسه ، الذي استدان لنفسه باستقراض شيء ليدفعه في حاجته ، أو بشراء شيء يحتاجه ، يشتريه في ذمته وليس عنه مال ، فهذا نوفي دينه من الزكاة بشرط أن يكون فقيراً ولو لم يعلم بذلك ، وعليه فهل الأفضل أن نعطي هذا المدين من الزكاة ليوفي دينه ؟ أو أن نذهب نحن إلى دائنه ونوفي عنه؟ هذا يختلف، فإن كان هذا الرجل المدين حريصاً على وفاء دينه وإبراء ذمته ، وهو أمين فيما يعطى لوفاء الدين ، فإننا نعطيه هو بنفسه يقضي دينه ، لأن هذا استر له وأبعد عن تخجيله أمام الناس الذين يطلبونه.
أما إذا كان المدين رجلاً مبذراً يفسد الأموال ، ولو أعطيناه مالاً ليقضي دينه ذهب يشتري به أشياء لا ضرورة لها ، فإننا لا نعطيه وإنما نذهب نحن إلى دائنه ونقول له : ما دين فلان لك ؟ ثم نعطيه هذا الدين أو بعضه ، حسب ما يتيسر .
وهل يقضى منها -أي من الزكاة -دين على ميت لم يخلف تركة؟ ذكر ابن عبد البر وأبو عبيدة أنه لا يقضى منها دين على الميت بالإجماع ، ولكن الواقع أن المسألة فيها خلاف ولكن أكثر العلماء يقولون : إنه لا يقضى منها دين على ميت، وأن الميت انتقل إلى الآخرة ولا يلحقه من الذل والهوان بالدين الذي عليه ما يلحق الأحياء، ولأن النبي صلى الله عليه وسلم لم يكن يقضي ديون الأموات من الزكاة، بل كان يقضيها عليه الصلاة والسلام من أموال الفيء حين فتح الله عليه ، وهذا يدل على أنه لا يصح قضاء دين الميت من الزكاة ، ويقال : الميت إن كان قد أخذ أموال الناس يريد أداءها فإن الله تعالى يؤدي عنه بفضله وكرمه ، وإن كان قد أخذها يريد إتلافها فهو الذي جنى على نفسه ، ويبقى الدين في ذمته يستوفى يوم القيامة ، وعندي أن هذا أقرب من القول بأنه يقضى منها الدين على الميت.
وقد يقال : يفرق بين ما إذا كان الأحياء يحتاجون إلى الزكاة، لفقر أو غرم أو جهاد أو غير ذلك ، وما إذا كان الأحياء لا يحتاجون إليها، ففي الحال لا التي يحتاج إليها الأحياء يقدم الأحياء على الأموات ، وفي الحال التي لا يحتاج إليها الأحياء لا حرج أن نقضي ديون الأموات الذين ماتوا ولم يخلفوا مالاً ، ولعل هذا قول يكون وسطاً بين القولين.
ثم الصنف السابع: في سبيل الله ، وسبيل الله هنا المراد بها الجهاد في سبيل الله لا غير، ولا يصح أن يراد بها جميع سبل الخير، لأنه لو كان المراد بها جميع سبل الخير لم يكن للحصر فائدة في قوله : (إِنَّمَا الصَّدَقَاتُ لِلْفُقَرَاءِ وَالْمَسَاكِينِ) الآية. إذ يكون الحصر عديم التأثير، فالمراد بسبيل الله هو الجهاد في سبيل الله، فيعطى المقاتلون في سبيل الله الذين يظهر من حالهم أنهم يقاتلون لتكون كلمة الله هي العليا ، يعطون من الزكاة ما يحتاجون إليه من النفقات والأسلحة وغير ذلك . ويجوز أن تشترى الأسلحة لهم من الزكاة ليقاتلوا بها ، ولكن لابد أن يكون القتال في سبيل الله.
والقتال في سبيل الله بينه الرسول صلى الله عليه وسلم بميزان عدل من قسط حين سئل عن الرجل يقاتل حمية، ويقاتل شجاعة ، ويقاتل ليرى مكانه، أي ذلك في سبيل الله؟ قال : " من قاتل لتكون كلمة الله هي العليا فهو في سبيل الله"(144)، فالرجل المقاتل حمية لوطنه أو قوميته أو غير ذلك من أنواع الحميات ليس يقاتل في سبيل الله ، فلا يستحق ما يستحقه المقاتل في سبيل الله ، لا من الأمور المادية الدنيوية ولا من أمور الآخرة، والرجل الذي يقاتل شجاعة أي أنه يحب القتال لكونه شجاعاً ، والمتصف بصفة غالباً يحب أن يقوم بها على أي حال كانت ، هو أيضاً ليس يقاتل في سبيل الله ، والمقاتل ليرى مكانه، يقاتل رياء وسمعة، ليس من المقاتلين في سبيل الله ، وكل من لا يقاتل في سبيل الله فإنه لا يستحق من الزكاة، لأن الله تعالى يقول: (وَفِي سَبِيلِ اللَّهِ) .
والذي يقاتل في سبيل الله هو الذي يقاتل لتكون كلمة الله هي العليا، قال أهل العلم: ومن سبيل الله : الرجل يتفرغ لطلب العلم الشرعي ، فيعطى من الزكاة ما يحتاج إليه من نفقة ، من كسوة وطعام وشراب ومسكن وكتب علم يحتاجها، لأن العلم الشرعي نوع من الجهاد في سبيل الله ، بل قال الإمام أحمد رحمه الله: " العلم لا يعدله شيء لمن صحت نيته". فالعلم هو أصل الشرع كله، ولا شرع إلا بعلم، والله سبحانه وتعالى أنزل الكتاب ليقوم الناس بالقسط ويتعلموا أحكام شريعته وما يلزم من عقيدة وقول وفعل ، أما الجهاد في سبيل الله فنعم ، هو من أشرف الأعمال، بل هو ذروة سنام الإسلام ، ولا شك في فضله، لكن العلم له شأن كبير في الإسلام، فدخوله في الجهاد في سبيل الله دخول واضح لا إشكال فيه، فإذا جاءنا رجل أهل للعلم، وقال : أنا إن ذهبت اكتسب لنفسي وأهلي لم أتمكن من طلب العلم، وإن تفرغت لطلب العلم فإنني أحصل فيه ، ولكن لا أجد ما يدفع حاجتي ، فإننا نقول له : تفرغ لطلب العلم ونعطيه ما يدفع به حاجته من الزكاة.
الثامن : بقي من أصناف أهل الزكاة صنف واحد وهو ابن السبيل ، وابن السبيل هو المسافر الذي انقطع به السفر ونفدت نفقته ، فإنه يعطى من الزكاة ما يوصله إلى بدله وإن كان في بلده غنياً ، لأنه محتاج ، ولا نقول له في هذه الحال: يلزمك أن تستقرض وتوفي ، لأننا في هذه الحال نلزم ذمته ديناً ، ولكن لو اختار هو أن يستقرض ولا يأخذ من الزكاة فالأمر إليه ، فإذا وجدنا شخصاً مسافراً من مكة إلى المدينة ، وفي أثناء السفر ضاعت نفقته ولم يبق معه شيء ، وهو غني في المدينة، فإننا نعطيه ما يوصله إلى المدينة فقط، لأن هذه هي حاجته ، ولا نعطيه أكثر.
وإذا كنا قد عرفنا أصناف أهل الزكاة الذين تدفع إليهم، فإن ما سوى ذلك من المصالح العامة أو الخاصة لا تدفع فيه الزكاة ، وعلى هذا فلا تدفع الزكاة في بناء المساجد، ولا في إصلاح الطرق، ولا في بناء المكاتب وشبه ذلك ، لأن الله عز وجل لما ذكر أصناف أهل الزكاة قال : ( فَرِيضَةً مِنَ اللَّهِ) . يعني أن هذا التقسيم جاء فريضة من الله عز وجل : (وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ) .
نقول : هل هؤلاء المستحقون يجب أن يعطى كل واحد منها، أي كل صنف، لأن الواو تقتضي الجمع؟
فالجواب : أن ذلك لا يجب ، لقول النبي صلى الله عليه وسلم لمعاذ بن جبل حين بعثه إلى اليمن : "أعلمهم أن الله افترض عليهم صدقة في أموالهم ، تؤخذ من أغنيائهم فترد على فقرائهم"(145) . فلم يذكر النبي صلى الله عليه وسلم إلا صنفاً واحداً ، وهذا يدل على أن الآية يبين الله تعالى فيها جهة الاستحقاق ، وليس المراد أنه يجب أن تعمم هذه الأصناف.
ولكن إذا قيل : أيها أولى أن يصرف فيه الزكاة ؟
قلنا : إن الأولى ما كانت الحاجة إليه أشد، لأن كل هؤلاء استحقوا بوصف، فمن كان أشد إلحاحاً وحاجة فهو أولى ، والغالب أن الأشد هم الفقراء والمساكين ، ولهذا بدأ الله تعالى بهم فقال : (إِنَّمَا الصَّدَقَاتُ لِلْفُقَرَاءِ وَالْمَسَاكِينِ) .
حكم صرف الزكاة للأقارب الفقراء
السؤال (122): فضيلة الشيخ ، ما حكم جعل الزكاة في الأقارب المحتاجين؟
الجواب : الزكاة في الأقارب الذين لهم من أهلها أولى من أن تكون في غير الأقارب ، لأن الصدقة على الأقارب صدقة وصلة، فإذا كان أخوك ، أو عمك ، أو أبوك، أو أمك من أهل الزكاة، فهم أولى بها من غيرهم، لكن إذا كانوا يأخذون الزكاة لحاجتهم، وأنت تجب عليك نفقتهم، فإنه لا يجوز أن تعطيهم من الزكاة في هذه الحال، لأنك إذا أعطيتهم من الزكاة رفدت مالك ووقيته بما تعطيه من الزكاة ، فإذا قدرنا أن لك أخاً فقيراً وأنت عندك زكاة ونفقته تجب عليك ، فإنه لا يجوز أن تعطيه لفقره، لأنك إذا أعطيته لفقره رفدت مالك ووقيته بما تعطيه ، إذ لو لم تعطه من الزكاة لوجب عليك الإنفاق عليه، أما لو كان على أخيك هذا دين لا يستطيع وفاءه، مثل أن يحصل منه إتلاف شيء أو جناية على أحد ، ويلزمه مال، ففي هذه الحال يجوز أن تقضي دينه من زكاتك ، لأنه لا يجب عليك قضاء دينه، وإنما الواج