إن تاريخ الرياضيات في الحقيقة هو الهيكل الرئيس لتاريخ الحضارة، سواء كان الاهتمام بالناحية الفلسفية أو الاجتماعية، ويعد تاريخ الرياضيات حجر الأساس للبناء التعليمي بأكمله، وقد لاحظ البروفيسور ميلر أن تاريخ الرياضيات هو العلم الوحيد الذي يمتلك جزءاً واضحاً من الكمال، ونتائج مثيرة أثبتت منذ 2000 سنة بنفس الطرق الفكرية المثبتة اليوم، ويفيد هذا التاريخ في توجيه الاهتمام نحو القيمة الثابتة للمآثر التعليمية التي تقدمها هذه المآثر للعالم. ويقول رام لاندو: "إن المسلمين قدموا كثيراً من الابتكارات في حقل الرياضيات، ومع ذلك فإن معظم الأمريكان والأوروبيين لم يعودوا يتذكرون من أي مخزن اكتسب العالم المسيحي الأدوات التي لا يمكن أن تصل الحضارة الغربية إلى مستواها الحالي إلا بها".([1]) ويقول توفيق الطويل في شهادة أخرى حول دور العرب في العلوم وفضلهم على الحضارة: "حقيقةً إن العرب قد تلقوا تراث أسلافهم من الرياضيين في مصر والعراق والهند واليونان، ولكن الرياضيات تدين بشطر كبير من تقدمها لعلماء العرب، بل إن مؤرخي العلم من الغربيين من يجاهر بأن بعض فروع الرياضيات اختراع عربي" ([2]).
لقد أبدى العلماء العرب والمسلمون اهتماماً بالغاً بعلم الرياضيات بفروعه المختلفة، وركزوا في دراستهم لهذا العلم على اتجاهين: الأول: الناحية النظرية: وذلك باستيعاب الموضوع وفهمه، ومن ثم القيام بالعديد من الابتكارات الجديدة التي لم يسبقهم إليها أحد. الثاني : الناحية التطبيقية : حيث بدءوا بإجراء دراسات عملية مفيدة للغاية في العلوم الأخرى ذات الارتباط المباشر بعلم الرياضيات مثل علم الفلك والهندسة الميكانيكية والكهربائية والمعمارية، وعلم المواريث، والأعمال التجارية وغيرها من العلوم والأعمال التي تتطلب معرفة بعلم الرياضيات، وكان علم الرياضيات في بداياته شاملاً لكثير من الاختصاصات كالفيزياء وعلم الفلك والتنجيم ([3])، ويذكر أن أهم تطور في علم الرياضيات قد استند إلى أسس ثابتة منطقية منذ عصر إقليدس الذي أبدع في الحساب وعلم الهندسة وحتى وصوله إلى المرحلة التي وضعت فيها أسسه وقواعده وأطره، وفي هذه الدراسة يتم تناول كافة العلوم العلمية والنظرية التي كان للعلماء العرب والمسلمين بصمات واضحة فيها ذكرها التاريخ لهم كإبداعات متقدمة ومميزة (Mathematicians)
1- محمد بن موسى الخوارزمـــي : Muhammed Ibn Musa Al-Khwarizmi (164/780هـ-235/850م) :
أ- حياتـــه :
هو أبو عبد الله محمد بن موسى، اشتهر بالخوارزمي نسبة إلى موطنه الأصلي إقليم خوارزم أو خُوَيّ، الواقعة جنوب بحيرة خوارزم أو بحر آرال، المحاذي لتركستان، لم تذكر المصادر العربية أية معلومات تفصيلية عن نشأته، وقد ذكره ابن النديم بأنه رياضي فلكي مؤرخ، ينعت بالأستاذ، ومما يذكر عن حياته أنه عاش في بغداد، وبرز في زمن خلافة المأمون ابن هارون الرشيد(198هـ/813م) –218هـ/833م)، ولمع في علم الرياضيات والفلك حتى عينه المأمون رئيساً لبيت الحكمة بعدما رأى نبوغه الفذ وتقدمه فيهما وعهد إليه بجمع الكتب اليونانية وترجمتها، وطلب إليه اختصار كتاب المجسطي، فاختصره وسماه كتاب السند هند، أي الدهر الداهر ([4]).
ب- آثـــاره :
برع الخوارزمي في العديد من العلوم، وترك آثاراً علمية قيمة في الرياضيات والفلك والجغرافيا وغيرها من العلوم، وشهرته الحقيقية في علم الرياضيات وفي الجبر خاصة، ومن أشهر مؤلفاته:
- كتاب الزيج الأول: ويعنى بعلم الفلك، والزيج كلمة فارسية يصطلح بها على جداول النجوم وحركاتها. وكتاب الزيج الثاني، وكتاب الرخامة، والرخامة قطعة من الرخام مخططة تساعد على معرفة الوقت عن طريق الشمس .
- كتاب عمل الإسطرلاب (الاصطرلاب): صورة الأرض،كتاب رسم الربع المعمور من الأرض، كتاب تقويم البلدان في الجغرافية أيضاً، شرح فيه آراء بطليموس، كتاب التاريخ، وقد وضعه باللغة الفارسية، كتاب الجمع والتفريق ([5])، أما اشهر كتبه وأهمها فهو كتاب الجبر والمقابلة، وقد قال في مقدمته: قد شجعني الإمام المأمون أمير المؤمنين… على أن ألّفتُ من حساب الجبر والمقابلة كتاباً مختصراً حاصراً للطيف الحساب وجليله لما يلزم الناس من الحاجة إليه في مواريثهم ووصاياهم، وفي مقاسمتهم وأحكامهم وتجاراتهم، وفي جميع ما يتعاملون به بينهم من مساحة الأرضين وكرْي الأنهار (توسيع مجراها وتنظيفها) والهندسة، وغير ذلك من وجوهه وفنونه ([6]) ويبدو أن هذا الكتاب المطبوع باسم الجبر والمقابلة إنما هو اختصار لكتاب أوسع، فقد اختصره ليكون في متناول الناس في أعمالهم التجارية، ثم إن هذه النسخة المختصرة ليست نسخة المؤلف الأصلية، بل هي نسخة ترجع إلى التاسع عشر في المحرم من سنة 743هـ-24/6/1342م، أي بعد وفاة الخوارزمي بخمسمائة سنة ([7]).
جـ- شخصية الخوارزمي العلمية:
نهج الخوارزمي كغيره من علماء العرب والمسلمين نهجاً علمياً يدل على نبل أخلاقه وعلو همته وسمو مقصده من تأليف كتبه، فقد أوضح في بداية كتابه الجبر والمقابلة الغاية التي من أجلها يؤلف العلماء دون المفاخرة بالنفس أو طلب الشهرة أو المنافسة للغير، أو طلب الأجر على ما يتحملونه من المشاق في كشف أسرار العلم، إذ يكفي أحدهم انتفاع الناس بعلمه، وبقاء هذا العلم شرفاً يحمله صاحبه ويدل عليه أبد الدهر يبتغي الأجر عليه من الله تعالى، قال الخوارزمي: "ولم تزل العلماء في الأزمنة الخالية والأمم الماضية يكتبون الكتب مما يصنفون من صنوف العلم ووجوه الحكمة نظراً لما بعدهم واحتساباً للأجر بقدر الطاقة ورجاء أن يلحقهم من أجر ذلك وذخره وذكره، ويبقى لهم من لسان الصِدْق ما يصغر في جنبه كثير مما كانوا يتكلفونه من المؤونة ويحملونه على أنفسهم من المشقة في كشف أسرار العلم وغامضه" ([8]).
د- مآثر الخوارزمي في علم الرياضيات وعلم الجبر:
ومما يدل على عبقرية الخوارزمي وطول باعه في علم الجبر، أن هذا العلم بقي ما يقرب من ثلاثة قرون لم يتطور أو يتقدم خطوةً ملموسةً بعده، وظل كتابه الجبر والمقابلة نصاً هاماً تستقي منه الجامعات الأوروبية على الدوام، فكان له تأثير كبير على أوروبا، وأظهر الخوارزمي في هذا الكتاب أنه عالم رياضي قدير، ترك أثراً عظيماً في الأجيال المتتالية، وأخذ تراثه العلمي موقعاً جليلاً في خدمة الحضارة الإنسانية، ([9]) وإذا كان الخوارزمي قد أخذ الأرقام والصفر معاً عن الهنود، فإنه هو الذي استخدمها للمرة الأولى في العمليات (المسائل) الحسابية، ودل الناس على طريقة استخدامها، ثم دَوّن العملية( المسألة) الحسابية تدويناً أبرز فيه ترتيب الأعداد في مراتب (خانات أو درجات) معينة، حتى تبرز الأعداد، ويصبح جمع الأرقام بعضها إلى بعض، أو طرحها أو ضربها أو قِسمتها ممكناً سهلاً، ويُعتقد أن هذا العمل قام في ذهن الخوارزمي على إدراك واضح للنظام العُشْريّ، ذلك لأن مراتب الأعداد هي أساس النظام العشري: إن العدد (4444) مثلاً مفروض فيه أنه كلما انتقل الرقم (4) من مرتبة إلى التي تليها يساراً ضُرِِب في عشرة، وكذلك كلما انتقل من مرتبة إلى التي تليها يميناً قُسّم على عشرة، كما هو الحال في الرقم (4) في الأعداد التالية 41111،14111،11411،11141،11114 ([10]).
وكما تناول العرب الأرقام من الهنود (ونحن نُسميها إلى اليوم : الأرقام الهندية)، فإن الخوارزمي هو الذي جعل لهذه الأرقام قيمة باستخدامها في المسائل الحسابية. ولولا الخوارزمي لبقيت الأرقام الهندية – كما كانت عند أصحابها الهنود – رموزاً مُفردة لا قيمة عملية لها. من أجل ذلك، لمّا تناول الأوروبيون هذه الأرقام من كتب الخوارزمي العربي، سموها " الأرقام العربية" وسموها أيضاً باسمه "ألغوروسموس". ثم تبدل هذا اللفظُ كثيراً أو قليلاً باختلاف الأمم التي استعارته في لُغاتها،([11]) وشاع في الناس حتى دخل في النثر والشعر.
والصفر أيضاً من الأرقام، وقد أخذه الأوروبيون (من الخوارزمي) باسمه العربي "صفر"، فقال الانكليز : صايفر، وقال الألمان : تْسِفّر، وقال الإفرنسيون : شيفْرْ، وقال الإيطاليون: شيفرا، وقال الإسبانُ : ثيفرا )[12]( ولما استخدم الخوارزمي الرموز (الأحرف) إلى جانب الأرقام منسوقة في مراتبها في المعادلة ثم جعل في المعادلة حدوداً إيجابية وحدوداً سلبيةً أصبح الجبر عنده علماً بالمعنى الذي نفهمُه نحنُ اليوم. أمّا المُصطلحاتُ الجبرية – التعابيرُ والرموز – من مثل : جبر ، مال ، شيء، عدد مفرد، جذر، معلوم، مجهول، أصمّ، وغيرها فإنها مذكورة عند الخوارزمي ذكراً صريحاً ومضروبٌ عليها الأمثلةُ. وأمّا فكرةُ الأس خاصة فواضحة في مثل جملته: " قولك ثلاثة أجذارٍ وأربعة من العدد تعدل مالاً ]3 س + 4=س2 [، فبابه أن تنًُصَف الأجذار فتكون واحداً ونصفاً، فاضربها في مثلها فتكون اثنين ورُبعاً، فزدها على الأربعة فتكون ستةً وربعاً، فخُذْ جذرها فهو اثنان ونصفٌ، فزده على نصف الأجذار – وهو واحدٌ ونصفٌ – فتكون أربعةً وهو جذر المال : والمالُ كله ستة عشر. ([13])
والخوارزمي عرف الأعداد السلبية وجعلها في المعادلة كالأعداد الإيجابية، مضروبةً في أعداد إيجابية وفي أعداد سلبية (ومقسومةً ومقسوماً عليها) ومجموعةً إلى أعداد سلبية (ومطروحة ومطروحاً منها)، ([14]) كما وضع القواعد لذلك.
وكذلك تنبّه الخوارزمي للكميات التخيلية، فقد قال: " واعلم أنك إذا نصفت الأجذار في هذا الباب وضربتها في مثلها فكان ذلك أقل من الدراهم التي مع المال فالمسألة مستحيلة([15]). وقد علق مصطفى مشرّفة ومحمّد مرسي أحمد على ذلك فقالا: " تنبه الخوارزمي للحالة التي يستحيل فيها إيجاد قيمة حقيقية للمجهول، فقال إن المسألة تكون في هذه الحالة مستحيلة ([16]) وقد بقي هذا اسمها بين علماء الرياضيات إلى أواخر القرن الثامن عشر عندما بدأ البحث في الكميات التخيلية على أيدي كسبار فسل وجان روبير أرجان". ([17]). "وهذا يطابق الحالة : ب 2- 4 أ ج > صفر، في المعادلة أ س² + ب س + جـ = صفر، ففي هذه الحال تكون الجذور وهمية أو تخيلية، أو نقول ليس لها جذور. "وللخوارزمي معادلات لا تزال أمثلة تصلح للتعليم إلى اليوم ، منها :
المعادلة الأولى : س² +10س= 39
الثانية : س² + 21 = 10س
الثالثة : 3س+4= س²
الرابعة : س² + 9 = 6س
أمّا المعادلة س²+10س=39 فما زالت تضيء كالشهاب في كتُُبِ أبي كامل شجاع بن أسلم (ت نحو 267 هـ = 880م) والكرخي (ت نحو 420هـ =1029م) وعمر الخيام (ت 517هـ=1123م)،كما ظهرت مراراً وتكراراً في تصانيف الكتاب (العلماء) المسيحيين (الأوروبيين) بعد قرون عديدة".
والجبر – بما هو علم – علم عربي أوجده الخوارزمي، ولكن لا بمعنى أن الجبر لم يكن معروفاً عن العرب وعند غير العرب، بل بمعنى أن الخوارزمي جعل منه علماً منظماً. إن الخوارزمي قد خرج بالجبر من الحال التي عرفه فيها اليونان والهنود، تلك الحال التي لم تكن تزيد على أنها وجه من أوجه الحل في الحساب – من غير اسم لها خاص بها – إلى المعادلة العامة التي هي أم المعادلات كلها وأساس علم الجبر. ثم إن الخوارزمي أخرج علم الجبر من نطاق الأمثلة المفردة وجعل منه نظاماً آلياً ذا قواعد مقررة ثابتة إذا أنت حللت بإحدى قواعده مسألة حسابية، فإن جميع المسائل المشابهة لتلك المسألة تجري مجراها في الحل على تلك القاعدة.
ومع الإيقان بأن الخوارزمي قد جمع في الرياضيات بين العلم الهندي والعلم اليوناني، فإن كاجوري يقول ([18]) : أمّا أن تكون معرفة الخوارزمي بالجبر "قد جاءت كلها من المصادر الهندية، فذلك مستحيل لأن الهنود لم يكن عندهم قواعد تشبه (قواعد) الجبر والمقابلة. ولم يكن من عادتهم، مثلاً، أن يجعلوا جميع الحدود في المعادلة حدوداً إيجابية، كما يفعل في عملية الجبر. وأما ذيوفانطوس اليوناني فإنه يذكر قيمتين تشبهان القيمتين (الإيجابية والسلبية) عند الخوارزمي بعض الشبه. غير أن الاحتمال الذي قد يميل بنا إلى أن الخوارزمي قد أخذ جميع معرفته بالجبر من ذيوفانطوس، يخف كثيراً لاعتبارات منها أن الخوارزمي قد أدرك الجذرين (الإيجابي والسلبي) في المعادلة ذات الدرجة الثانية، بينما ذيوفانطوس قد لاحظ واحداً منهما فقط. ثم إن ذيوفانطوس كان في العادة – بخلاف الخوارزمي – يرفض الحلول التخيلية. من أجل ذلك يبدو أن علم الجبر، كما جاء به الخوارزمي، لم يكن هندياً خالصاً ولا يونانياً خالصا".
وأياً كان الأمر فإن الخوارزمي إذا لم يكن مبتدع علم الجبر على الحصر، فإنه هو الذي جعل من الجبر علماً مستقلاً قائماً بنفسه. ثم إن هذه المعادلة س² + 21=10س المعروفة في تاريخ الرياضيات باسم معادلة الخوارزمي، هي أساس المعادلة العامة: س² –(س-10)س=10س، إذا كانت س أكثر من عشرة، كما أنها أساس للوجه الآخر من هذه المعادلة نفسها: س²=(10-س)س=10س، إذا كانت س أقل من عشرة. أما إذا كانت س تساوي عشرة (أو إذا كانت تساوي صفراً). فإنها حينئذٍ تكون حداً في وجهي المعادلة كليهما، أي أن المعادلة تصح حينئذ بافتراض قيمة الجذر س عشرة أو صفراً ([19])، سواءُ أكانت العلامة بعد المال س² هي العلامة – أو +.
أما جهود الخوارزمي العامة فكانت في أنه حل "المسائل الحسابية" بطريقة جبرية للتسهيل على الناس حينما تعرض لهم هذه المسائل في حياتهم الاقتصادية اليومية. وهو الذي أوجد حساب الجبر والمقابلة القائم في الأصل على نقل الحدود الجبرية من أحد جانبي المعادلة إلى الجانب الآخر فيها، نحو: ([20])
س² – 2 س=5س+6
فإنها تصبح بالجبر : س²=5س + 2 س +6 ، ثم تصبح بالمقابلة : س² = 7 س + 6.
ولم يقتصر الخوارزمي، في استخدام الجبر، على حل المسائل الحسابية فحسب، بل استخدمه أيضاً في حل مسائل هندسية، فكان أول من أدرك بوضوح إمكانية حل نظرية هندسية بطريقة تحليلية (بحل جبري). فبذلك يكون الخوارزمي قد رفع الحل الجبري إلى مستوى الحل الهندسي في تطبيق المعادلة ذات الدرجة الثانية على المسائل الهندسية. ولقد أدت جهود الخوارزمي في هذا المجال إلى بدء مرحلة في تاريخ الرياضيات اتخذت الطريقة التحليلية في أثنائها مكانة كمكانة الطريقة الهندسية (التركيبية) في حل المسائل الهندسية نفسها، ولم تكن طريقة الخوارزمي في ذلك تختلف عن الطريقة التي تستخدم اليوم في تدريس الرياضيات. ([21])