أول واجب على المكلف....................للشيخ عبد الله الغنيمان رحمه الله
بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله رب العالمين، ولا عدوان إلا على الظالمين، والصلاة و السّلام على رسولنا محمد وعلى آله و أصحابه أجمعين .
السلام عليكم و رحمة الله و بركاته.
أول واجب على المكلف
الشيخ/عبد الله الغنيمان رحمه الله
الحمد لله الغنى الحميد، المبدئ المعيد ، غنيٌ بذاته عن كل من سواه ، وكل من سواء فقير إليه ، وصائر إليه ، وهو تحت قهره وتصرفه ، وصلى الله وسلم على عبده ورسوله محمد وعلى آله وصحبه وأتباعه إلى يوم الدين .
وبعد ، فإن الله تعالى خلق الإنسان وفضله على كثير من خلقه ، بالعقل والفكر والنطق والبيان ، ووهبه القدرة على دارين ، دارًا للابتلاء والاختبار والتمييز بين الصالح والفاسد ، ومحلا لكسب الأعمال ، التي بها يستوجب الثواب أو العقاب ، وجعل لها مدة محددة ، قال تعالى : ﴿تَبَارَكَ الَّذِي بِيَدِهِ الْمُلْكُ وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌفاصل الآياتالَّذِي خَلَقَ الْمَوْتَ وَالْحَيَاةَ لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلاً وَهُوَ الْعَزِيزُ الْغَفُورُفاصل الآيات﴾ [ الملك 1-2] .
فالله تعالى أوجد الإنسان بعد أن كان معدوماً، وأعطاه ما يحتاج إليه في حياته وما يكون سببًا لسعادته من العقل والفكر الذي يميز ما ينفعه مما يضره وما يلزم لذلك من السمع والبصر ، والقوى التي يتمكن بها من العمل . قال تعالى ﴿هَلْ أَتَى عَلَى الْإِنسَانِ حِينٌ مِّنَ الدَّهْرِ لَمْ يَكُن شَيْئاً مَّذْكُوراً فاصل الآيات إِنَّا خَلَقْنَا الْإِنسَانَ مِن نُّطْفَةٍ أَمْشَاجٍ نَّبْتَلِيهِ فَجَعَلْنَاهُ سَمِيعاً بَصِيراً فاصل الآيات إِنَّا هَدَيْنَاهُ السَّبِيلَ إِمَّا شَاكِراً وَإِمَّا كَفُوراً فاصل الآيات﴾ [ الإنسان 1-3] فقوله تعالى : ﴿لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلاً﴾.
وقوله: ﴿ نَّبْتَلِيهِ﴾ هذا ما خلق الإنسان من أجله ، وقد بين ذلك تعالى بيانًا واضحًا وضوح النهار .
قال تعالى : ﴿وَلَقَدْ بَعَثْنَا فِي كُلِّ أُمَّةٍ رَّسُولاً أَنِ اعْبُدُواْ اللّهَ وَاجْتَنِبُواْ الطَّاغُوتَ فَمِنْهُم مَّنْ هَدَى اللّهُ وَمِنْهُم مَّنْ حَقَّتْ عَلَيْهِ الضَّلالَةُ﴾ [النحل :36].
وقال تعالى : ﴿وَمَا أَرْسَلْنَا مِن قَبْلِكَ مِن رَّسُولٍ إِلَّا نُوحِي إِلَيْهِ أَنَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا أَنَا فَاعْبُدُونِ﴾ [الأنبياء : 25].
وفى القرآن آيات كثيرة تنص على وجوب عبادة الله تعالى ، وتبين لروم ذلك للإنسان لزوم أمر أوجبه الله تعالى عليه ، وأكثر تعالى من التهديد والوعيد لمن تركه ، وأعرض عنه ، ومن الترغيب والوعد بالجزاء الجميل لمن امتثل ذلك واتبع الرسل ، ومع وضوح هذا الأمر وكثير ما أحبط به من ترغيب في فعله في الدنيا والآخر، ومن ترهيب لمن أعرض عنه وجانبه مع ذلك كله فقد ضل عنه أكثر الخلق إما جهلا ً، وأما عمداً وعناداً، وذلك أن الذي يحمل العبد على امتثال أمر الله واتباع رسله هو قوة الإيمان بالله ،وبما أعده لمن آمن به وعمل صالحا وما أعد لمن عصاه وبارزه بالمعاداة والمحاربة .
العلم بما يؤمن به شرط في صحة إيمانه
ومع الإيمان فلابد من العلم بأمره وشرعه ، ومع فقد هذين الأمرين يستحكم الضلال ، والبعد عن كل خير ، لهذا صار أهم ما على العبد معرفته ، ما أوجبه الله عليه ، والعمل به ، وأول ما أوجب الله تعالى على العبد و أعظمه هو الإيمان به تعالى وبرسوله ، ثم الاهتداء إلى ذلك وتفاصيله بالوحي الذي جاء به النبي صلى الله عليه وسلم قال تعالي :﴿قُلْ إِن ضَلَلْتُ فَإِنَّمَا أَضِلُّ عَلَى نَفْسِي وَإِنِ اهْتَدَيْتُ فَبِمَا يُوحِي إِلَيَّ رَبِّي﴾. [سبأ : 50] فالاهتداء يكون بالوحي ولهذا أمر الله تعالى أهل العقل بتدبر القرآن واستماعه والإنصاف لتلاوته، وخض فيه على التدبر والتفكر والتذكر والعقل والفهم والتأثر منه بالوجل، والبكاء والخشية لما فيه من العلم والهدى ، والمقصود من إرسال الرسل إلى العباد ، وإنزال الكتب عليهم إصلاح أحوالهم في الدنيا والآخرة ، وأن يعرفوا ما خلقوا من أجله ، ويصلوا إليه ، وهو عبادة ربهم وحده لا شريك له .
العبادة النافعة عبادة القلب الموجبة لعمل الجوارح
والعبادة أصلها عبادة القلب ، المستلزمة لعبادة الجوارح ، فإن القلب هو الملك، والأعضاء جنوده ، وإذا صلح الملك صلحت جنوده ، كما قال صلى الله عليه وسلم : «ألا إن في الجسد مضغة إذا صلحت صلح لها سائر الجسد ، وإذا فسدت فسد لها سائر الجسد ألا وهى القلب» [1].
والقلب بعبادة الله تعالى والاستعانة به : معتصم مستمسك قد لجأ إلى ركن وثيق ، واعتصم بالدليل الهادي والبرهان المتين ، فلا يزال في زيادة من العلم والإيمان ، أو سلامة من الجهل والضلال ، سالمًا من جهل أهل التصوف وعباد الخلق ، وضلال المتكلمين أهل الشك والحيرة والخذلان . والعبد لما كان مخلوقا مربوباً ، عاد في علمه وعمله إلى خالقه وباريه فبه يهتدي وله يعمل ، واليه يصير ، فلا غنى له عنه ، وانصرافه إلى غيره هو عين هلاكه وفساده ، وبالله له عن كل شيء عوض ، وليس لكل شيء عن الله عوض ، وليس للعبد صلاح ولا فلاح إلا بمعرفة ربه وعبادته ، فإذا حصل له ذلك فهو الغاية المرادة له والتي خلق من أجلها ، فما سوى ذلك إما فضل نافع أو فضول غير نافعة أو فضول ضارة ، ولهذا صارت دعوة الرسل لأممهم إلى الإيمان بالله وعبادته ، فكل رسول يبدأ دعوته بذلك كما يعلم من تتبع دعوات الرسل في القرآن ، بخلاف الطرق الكلامية الفلسفية فإنهم يبدأون بنفوسهم فيجعلونها هي الأصل الذي يفرعون عليه ، فيتكلمون في إدراكاتهم للعلم ، أنه مرة يكون بالحس ومرة بالعقل ، أو بهما .
ويجعلون العلوم الحسية والبديهية هي الأصل الذي لا يحصل علم إلا بها حد زعمهم ، مثل الأمور الطبيعية والحساسة ، والأخلاق ، وبنوا سائر العلوم على الأمور الثلاثة ، إن الواحد نصف الاثنين ، والعشرة أكثر الخمسة ، والجسم لا يكون في مكانين ، والضدان لا يجتمعان كالسواد والبياض ، هذا في الحسابية والطبيعية ، وأما الأخلاق فمثل استحسان العلم ، والعدل والعفة والشجاعة .
ثم إذا تجاوزوا هذه الأمور إلى العالم العلوي فمقصودهم إثبات خالق العالم والدلائل التي بها تثبت النبوة على طريقهم فإذا ثبتت النبوة على طريقهم فإذا ثبتت النبوة تلقوا عنها السمعيات، وهى الكتاب والسنة والإجماع ، وهذه الطريقة فيها فساد كثير في وسائلها ومقاصدها كما بين ذلك شيخ الإسلام ابن تيمية في كثير من كتبه ، أما الوسائل مع صعوبتها ففيها خطورة ومزلات عظيمة وأما مقاصدها فغايتها إثبات ربوبية الله تعالى للكون فهى كما قيل لحم جمل غث ، على رأس جبل وعر ، لا سهل فيرتقى ، ولا سمين فينتقل ، مثال ذلك قولهم كما في نهاية المرام والإرشاد وغيرهما : (( إن الله لا يعرف إلا بإثبات حدوث العالم ثم الاستدلال بذلك على محدثه ، والدليل على أن العالم حادث ، ما فيه من الأعراض ، والأعراض هي صفات الأجسام )) [2]. وجمهور المتكلمين يستولون بهذا الدليل بعينه على نفى صفات الله تعالى حيث قالوا : إن حركات الأجسام وأعراضها هو الذي دل على حدوثها ، وسموا الصفات أعراضًا مثل العلم والرحمة والغضب والرضا وغير ذلك وقالوا : إذا اتصف بذلك صار محلا للحوادث ،وما كان محلا للحوادث فهو حادث .
والقدرية من المعتزلة يعتقدون أثبات الرب تعالى لا يمكن إلا بعد اعتقاد أن العبد هو المحدث لأفعاله ، وإلا انتفض الدليل . وكثير منهم جعل سلوك هذا متعينًا لأنه الموصل إلى معرفة الله ، ومن لم يسلك ذلك لم يعرف ربه . وبطلان هذا معلوم بالكتاب والسنة وإجماع أئمة المسلين . قال الله تعالى : ﴿وَمَا أُمِرُوا إِلَّا لِيَعْبُدُوا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّين﴾ [البينة : 5] . وقال تعالى : ﴿فَاعْبُدِ اللَّهَ مُخْلِصاً لَّهُ الدِّينَ﴾ . [الزمر : 2] . وقال : ﴿يَا أَيُّهَا النَّاسُ اعْبُدُواْ رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ وَالَّذِينَ مِن قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ﴾. [البقرة : 21] . وهذا كثير في القرآن يأمر الله تعالى أن يعبد ويخلص له الدين ، وأن يؤمن به ابتداء ، وكذلك النبي صلى الله عليه وسلم لم يدع الناس إلى النظر ابتداء بالاستدلال على وجود الله تعالى ، ولا إلى مجرد إثبات وجوده ، بل أول ما دعاهم إليه شهادة أن لا إله إلا الله وأن محمداً رسول الله ، وكان يأمر رسله والدعاة الذين يبعثهم لنشر دعوته بأن يبدؤوا بدعوة الناس إلى أن يوحدوا الله أولاً بأن يشهدوا أن لا إله إلا الله وأن محمدًا رسول الله كما في حديث معاذ المتفق على صحته حينما بعثه إلى أهل اليمن قال : «إنك تأتي قوماً من أهل الكتاب ، فليكن أول ما تدعوهم إليه شهادة أن لا إله إلا الله ، وأن محمدًا رسول الله ، فإن هم أجابوك لذلك فأعلمهم أن الله افترض عليهم خمس صلوات في اليوم والليلة ، فإن هم أجابوك لذلك فأعلمهم أن الله افترض عليهم صدقة تؤخذ من أغنيائهم فترد في فقرائهم» [3].
وقوله في حديث أبى هريرة الذي في الصحيحين وحديث ابن عمر : «أمرت أن أقاتل الناس حتى يشهدوا أن لا إله إلا الله وأنى رسول الله ، فإذا فعلوا ذلك عصموا منى دماءهم وأموالهم إلا بحقها وحسابهم على الله» [4]. وقد أجمع الصحابة وأئمة المسلمين من بعدهم على أن الكافر يدعى إلى الشهادتين مهما كانت عقيدته وعمله فإذا أجاب ونطق بالشهادتين حكم بإسلامه ظاهراً ، فإن كان صادقاً فإن كان صادقاً في نطقه فهو مسلم ظاهرًا وباطنًا ، وإن كان كاذبًا في الباطن فهو منافق .
وليس في كتاب الله أن النظر أول الواجبات ، بل ولا فيه إيجاب النظر على كل أحد ، وإنما فيه الأمر بالنظر لبعض الناس الذين لا يحصل لهم الإيمان إلا به كقوله تعالى : ﴿َوَلَمْ يَتَفَكَّرُواْ مَا بِصَاحِبِهِم مِّن جِنَّةٍ إِنْ هُوَ إِلاَّ نَذِيرٌ مُّبِينٌ فاصل الآيات أَوَلَمْ يَنظُرُواْ فِي مَلَكُوتِ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ وَمَا خَلَقَ اللّهُ مِن شَيْءٍ وَأَنْ عَسَى أَن يَكُونَ قَدِ اقْتَرَبَ أَجَلُهُمْ فَبِأَيِّ حَدِيثٍ بَعْدَهُ يُؤْمِنُونَ فاصل الآيات﴾ [الأعراف : 184- 185] .
فقول الجويني مثلا في الإرشاد (ص3) : (( أول ما يجب على العاقل البالغ ، باستكمال سن البلوغ أو الحلم شرعاً ، القصد إلى النظر الصحيح المفضي إلى العلم بحدوث العالم)) ومثل ذلك قال الرازي ( انظر المحصل ص 47) وكذلك الإيجي في المواقف (ص32) وغيرهم ، وهذا كلام مخالف لكتاب الله تعالى ولما علم من دعوة رسول الله صلى الله عليه وسلم ، ولما أجمع عليه أئمة المسلمين ، وإذا سلم لهؤلاء ، ((أن أول الواجبات هو النظر ، أو المعرفة أو المعرفة أو حتى الشهادتين كما هو الصحيح . فكيف يجب على البالغ أن يفعله عقب البلوغ وقد فعله قبل ذلك ، وخصوصاً إذا كان النظر مستلزماً للشك المنافي لما حصل له من المعرفة والإيمان ، فيكون التقدير أن يقال : اكفر ثم آمن ، واجهل ثم اعرف وهذا كما أنه محرم شرعاً ، فهو ممتنع في العقل ، فإن تكليف مالا يقدر عليه ، فإن الجاهل يمكن أن يصير عالماً أما العالم فلا يقدر أن يصير جاهلاً )) .
كما أن من رأى الشيء وسمعه لا يمكن أن يقال لا يعرفه ، فمن كان الله قد أنعم عليه بالإيمان وشرح صدره للإسلام قبل بلوغه كيف يؤمر بما يناقض إيمانه ومعرفته .
قال ابن المنذر : (أجمع كل من أحفظ عنه من أهل العلم على أن الكافر إذا قال : أشهد أن لا إله إلا الله ، وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله ، وإن كل ما جاء به محمد حق ، وأبرأ من كل دين خالف دين الإسلام ، وهو بالغ صحيح العقل أنه مسلم ، فإن رجع بعد ذلك فأظهر الكفر كان مرتدًا ، يجب عليه ما يجب على المرتد) ( الأوسط : ص 735 ) .
والسلف والأئمة متفقون على أن أول ما يؤمر به العباد الشهادتين ، وأن من فعل ذلك قبل البلوغ لم يؤمر بتجديد ذلك بعد البلوغ .
مجرد المعرفة لا تكفى في الإيمان
والشهادة تتضمن الإقرار بالله تعالى وبرسوله ، لكن مجرد معرفة الله تعالى لا تصير بها الإنسان مؤمنا وإن كان يعلم أنه رب كل شيء فلابد للإيمان من شهادة أن لا إله إلا الله وأن محمدًا رسول الله، وهذا هو الذي دل عليه كتاب الله تعالى . قال الله تعالى : ﴿وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ﴾ [الذاريات : 56] فالعبادة هي الغاية المقصودة من الخلق التي أرادها الله منهم بأمره وشرعه ، وبها يحصل محبوبه تعالى ، لأن الله تعالى لم يجعلهم عابدين له ، لما في ذلك من تفويت محبوبات له أخرى ، هي أحب إليه من عبادة أولئك وحصول مفاسد أخرى هي أبغض من معصيتهم كما قال تعالى :﴿وَلاَ يَزَالُونَ مُخْتَلِفِينَ فاصل الآيات إِلاَّ مَن رَّحِمَ رَبُّكَ وَلِذَلِكَ خَلَقَهُمْ﴾ [هود : 118: 119] فهو تعالى أراد كونية قدرية ، ففي قوله تعالى : ﴿وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ﴾ . ذكر الغاية التي أمروا بها ، وفى قوله تعالى : ﴿وَلاَ يَزَالُونَ مُخْتَلِفِينَ﴾ . ذكر الغاية التي يصيرون إليها ، وكلاهما مرادة له تعالى تلك مرادة بأمره وشرعه ، والموجود منها مراد بخلقه وأمره ، والأخرى مرادة بخلقه ، والمشروع منها مراد بخلقه وأمره ، والأخرى مرادة بخلقه ، والمشروع منها مراد بخلقه وأمره ، وهذا معنى ما يروى عن على بن أبى طالب في قول تعالى : ﴿إِلَّا لِيَعْبُدُونِ﴾ . قال معناه : إلا لآمرهم أن يعبدون ، وأدعوهم إلى عبادتي ، وقاله مجاهد أيضا .
وقال ابن عباس : ﴿إِلَّا لِيَعْبُدُونِ﴾ . ليقروا لي بالعبودية ، طوعاً وكرهاً .
وقال السدى : خلقهم للعبادة ، فمن العبادة عبادة تنفع ، ومنها عبادة لا تنفع كما قال تعالى : ﴿وَلَئِن سَأَلْتَهُم مَّنْ خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ لَيَقُولُنَّ اللَّهُ قُلِ الْحَمْدُ لِلَّهِ بَلْ أَكْثَرُهُمْ لَا يَعْلَمُونَ﴾ [لقمان : 25] فهذا منهم عبادة ولكنها لا تنفعهم ، وقال ال*****ي : إلا ليوحدوني ، فأما المؤمن فيوحده في الشدة والرخاء ، وأما الكافر فيوحده في الشدة والبلاء دون النعمة والرخاء ، كما قال تعالى : ﴿فَإِذَا رَكِبُوا فِي الْفُلْكِ دَعَوُا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ﴾ [العنكبوت : 65][5] .
معرفة الناس لربهم من لوازم خلقهم
وهذه الأقوال تبين أن جميع الإنس والجن مقرون بالخالق معترفون به ، خاضعون لعبوديته طوعاً وكرهاً ، وهذا يقتضى أن أصل الإقرار بالله تعالى ، والاعتراف به رباً مستقر في قلوب جميع الإنس الجن ، وأنه من لوازم خلقهم ، ضروري فيهم ، وأن قدر أن الإقرار بالرب تعالى يحصل بسبب يعرض للإنسان في حياته فهو في الحقيقة إنما يظهر بذلك ويبرز ، وهذا والله أعلم هو الإقرار والشهادة المذكورة في قوله تعالى : ﴿وَإِذْ أَخَذَ رَبُّكَ مِن بَنِي آدَمَ مِن ظُهُورِهِمْ ذُرِّيَّتَهُمْ وَأَشْهَدَهُمْ عَلَى أَنفُسِهِمْ أَلَسْتُ بِرَبِّكُمْ قَالُواْ بَلَى شَهِدْنَا أَن تَقُولُواْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ إِنَّا كُنَّا عَنْ هَذَا غَافِلِينَ فاصل الآيات أَوْ تَقُولُواْ إِنَّمَا أَشْرَكَ آبَاؤُنَا مِن قَبْلُ وَكُنَّا ذُرِّيَّةً مِّن بَعْدِهِمْ أَفَتُهْلِكُنَا بِمَا فَعَلَ الْمُبْطِلُونَ فاصل الآيات﴾ [ الأعراف : 172 ، 173 ] . وشهادة المرء على نفسه في القرآن يراد بها إقراره ، فمن أقر بحق عليه فقد شهد به على نفسه كما قال تعالى : مَ﴿ا كَانَ لِلْمُشْرِكِينَ أَن يَعْمُرُواْ مَسَاجِدَ الله شَاهِدِينَ عَلَى أَنفُسِهِمْ بِالْكُفْرِ أُوْلَئِكَ حَبِطَتْ أَعْمَالُهُمْ وَفِي النَّارِ هُمْ خَالِدُونَ﴾ [التوبة : 17] . لأنهم كانوا مقرين بما هو كفر ، فصار ذلك شهادة منهم على أنفسهم وقال تعالى : ﴿يَا مَعْشَرَ الْجِنِّ وَالإِنسِ أَلَمْ يَأْتِكُمْ رُسُلٌ مِّنكُمْ يَقُصُّونَ عَلَيْكُمْ آيَاتِي وَيُنذِرُونَكُمْ لِقَاء يَوْمِكُمْ هَـذَا قَالُواْ شَهِدْنَا عَلَى أَنفُسِنَا وَغَرَّتْهُمُ الْحَيَاةُ الدُّنْيَا وَشَهِدُواْ عَلَى أَنفُسِهِمْ أَنَّهُمْ كَانُواْ كَافِرِينَ﴾ [الأنعام : 130] . فشهادتهم على أنفسهم هو إقرارهم على أنفسهم .
وقولهم : ﴿ بَلَى شَهِدْنَا ﴾ أي أنهم أقروا بأن الله ربهم ، ومن أخبر بأمر عن نفسه فقد شهد به على نفسه . وقوله : ﴿وَأَشْهَدَهُمْ ﴾ يدل على أنه هو الذي جعلهم شاهدين على أنفسهم بأنه ربهم ، وهذا الإشهاد مقرون بأخذهم من أرحام الأمهات فالمعنى : اذكر حين أخذوا من أصلاب الآباء ونزوله في أرحام الأمهات فالمعنى : اذكر حين أخذوا من أصلاب الآباء فخلقوا حين ولدوا على الفطرة مقرين بالخالق شاهدين على أنفسهم بأن الله ربهم ، فالأخذ يتضمن خلقهم ، والإشهاد يتضمن هداه الإقرار بأنه ربهم .
ولهذا صار الإقرار بوجود الله تعالى مما لا يحتاج إلى برهان ، فإن الفطر الإنسانية تشهد بضرورة فطرتها ، وبديهة فكرتها على خالق حكيم ، قادر عليم ﴿أَفِي اللّهِ شَكٌّ فَاطِرِ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ﴾ . ﴿وَلَئِن سَأَلْتَهُم مَّنْ خَلَقَهُمْ لَيَقُولُنَّ اللَّهُ﴾ [الزخرف : 87] .
ومن غفل عن هذه الفطرة في حال فإنه يلوذ بها في حال الضراء ﴿وَإِذَا مَسَّكُمُ الْضُّرُّ فِي الْبَحْرِ ضَلَّ مَن تَدْعُونَ إِلاَّ إِيَّاهُ﴾ [الإسراء : 67 ] . ولهذا لم يأت الأمر التكليفى بوجوب معرفة وجود الله تعالى خلاًفا لما يقول أهل الكلام ومن سلك طريقهم ، وإنما جاء الأمر بوجوب عبادته وتوحيده ونفى الشرك كما قال صلى الله عليه وسلم : «أمرت أن أقاتل الناس حتى يقولوا لا إله إلا الله» . وقال تعالى : ﴿فَاعْلَمْ أَنَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ وَاسْتَغْفِرْ لِذَنبِكَ﴾ [محمد : 19] . وهذا هو محل النزاع بين الرسل وأممهم كما قال تعالى : ﴿وَلَقَدْ بَعَثْنَا فِي كُلِّ أُمَّةٍ رَّسُولاً أَنِ اعْبُدُواْ اللّهَ وَاجْتَنِبُواْ الطَّاغُوتَ فَمِنْهُم مَّنْ هَدَى اللّهُ وَمِنْهُم مَّنْ حَقَّتْ عَلَيْهِ الضَّلالَةُ فَسِيرُواْ فِي الأَرْضِ فَانظُرُواْ كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الْمُكَذِّبِينَ﴾ [النحل : 36] .
وهذا هو التوحيد الواجب على كل الخلق ، وهو مبنى على أن الله واحد في إلهيته لا ندّ له ، وواحد في ذاته وصفاته وأسمائه لا نظير له ، وواحد في ملكه وأفعاله لا شريك معه ، فلابد أن يعبد الله وحده لا يشرك معه غيره ، والشرك في العبادة هو أن يجعل معه إله آخر يتوجه إليه بنوع من أنواع العبادة ، وهذه أقسام التوحيد الثلاثة ، توحيد العبادة ، وتوحيد الربوبية ، وتوحيد الأسماء والصفات وهذا هو الدين الذي جاءت به الرسل من عند الله وحده ، وعبادته بأسمائه وصفاته ، وفعل أمره ، واجتناب نهيه .
ثمرة التوحيد :
والتوحيد الخالص هو الذي يرفع نفوس معتقديه ويخلصها من رق الأغيار ويفك إرادتهم من أسر الرؤساء الروحانيين كما يسمون ،وشيوخ الطرق الباطلة والدجل ، والضلال والتعلقات بالأحياء والأموات ، ويخلصها كذلك من إله المادة والتعليق بالطواغيت الماديين وكل بالأحياء والأموات ، فيكون المؤمن مع الناس حرًّا عزيزًا كريمًا ، ومع الله عبدًا خاضعًا ذليلاً خائفاً ، فهذا الذي يجب على العبد أن يعتني به أشد الاعتناء ، ويحذر أشد الحذر أن ينحرف عنه ، لأن الانحراف عنه هو الهلاك المحتم والخسران الأكبر والخلود في جهنم ، مع أن أقسام التوحيد الثلاثة متلازمة ولكن توحيد الربوبية أمر فطرى خلقي : (والرب هو المربى الخالق الرازق الناصر الهادي) [6].
(فالرب هو الذي يربى عبده فيعطيه خلقه الذي تتم حياته به ، ثم يهديه إلى جميع مصالحه) [7]. فتوحيد الربوبية هو العلم بأن الله تعالى هو مالك الأشياء كلها ، ومصرفها على ما يريد فالأمر كله راجع إليه تعالى ، من خلق السماوات وما فيهن ، وتصريف شأنها ، وخلق الأرض ومن عليها ، وما فيها من معادن ، وأسرار ، وخلق الرياح وتصريفها ، والسحب وتسخيرها تحمل الماء إلى ما شاء الله تعالى من الأماكن ، فينزله ، وبه نحيا الأرض الميتة ، وإيجاد الأرزاق للحيوانات والدواب والأناسي ، والإحياء والإماتة ، وتنظيم أمور الكون كله من بداية وجوده إلى نهايته ، وإلى ما شاء الله تعالى ، فالجميع ملك لله تعالى وتحت قهره وتصرفه ، حسب إرادته جل وعلا ، وهذا يقر به كل المكلفين من مؤمن وكافر إلا من عاند و كابر منهم ، والمعاند لا تجدي فيه الأدلة ، ولا تزيده المجادلة إلا تماديا في ضلاله ، وإنما خلق له الحديد الذي فيه البأس الشديد ، قال الله : ﴿فَإِنَّهُمْ لاَ يُكَذِّبُونَكَ وَلَكِنَّ الظَّالِمِينَ بِآيَاتِ اللّهِ يَجْحَدُونَ﴾ [الأنعام : 33]
فبين الله تعالى أن الكفار يعلمون أن ما جاء به الرسول صلى الله عليه وسلم حق ، وقال تعالى : ﴿إِنَّكَ لَا تُسْمِعُ الْمَوْتَى وَلَا تُسْمِعُ الصُّمَّ الدُّعَاء إِذَا وَلَّوْا مُدْبِرِينَ فاصل الآيات وَمَا أَنتَ بِهَادِي الْعُمْيِ عَن ضَلَالَتِهِمْ إِن تُسْمِعُ إِلَّا مَن يُؤْمِنُ بِآيَاتِنَا فَهُم مُّسْلِمُونَ فاصل الآيات﴾ [ النمل : 80 ، 81 ] . وأشهر من عرف الماضى في تجاهله وإنكاره لله تعالى هو فرعون ، وكان مستيقنًا في قلبه وجود الله تعالى ، وأنه مالك كل شيء كما قال تعالى عن موسى أنه قال له : ﴿ قَالَ لَقَدْ عَلِمْتَ مَا أَنزَلَ هَـؤُلاء إِلاَّ رَبُّ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ بَصَآئِرَ ﴾ . [الإسراء : 102] . وقال تعالى مخبرا عنه وعن قومه : ﴿وَجَحَدُوا بِهَا وَاسْتَيْقَنَتْهَا أَنفُسُهُمْ ظُلْماً وَعُلُوّاً﴾ [النمل : 14] . ولهذا قال منكراً على موسى : ﴿وَمَا رَبُّ الْعَالَمِينَ ﴾. [الشعراء : 23] . فقال له موسى : ﴿رَبُّ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَمَا بَيْنَهُمَا إن كُنتُم مُّوقِنِينَ فاصل الآيات قَالَ لِمَنْ حَوْلَهُ أَلَا تَسْتَمِعُونَ فاصل الآيات قَالَ رَبُّكُمْ وَرَبُّ آبَائِكُمُ الْأَوَّلِينَ فاصل الآيات قَالَ إِنَّ رَسُولَكُمُ الَّذِي أُرْسِلَ إِلَيْكُمْ لَمَجْنُونٌ فاصل الآيات قَالَ رَبُّ الْمَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ وَمَا بَيْنَهُمَا إِن كُنتُمْ تَعْقِلُونَ فاصل الآيات﴾ [ الشعراء : 24- 28] وما زعمه بعضهم أن قول فرعون : ﴿وَمَا رَبُّ الْعَالَمِينَ ﴾. استفهام استعلام ، وسؤال عن الماهية ، وأن موسى عجز عن الجواب ، لأن الله تعالى لا ماهية له . هو زعم باطل بل الاستفهام للإٍنكار كما دلت عليه الآيات الأخر : ﴿وَجَحَدُوا بِهَا وَاسْتَيْقَنَتْهَا أَنفُسُهُمْ ظُلْماً وَعُلُوّاً﴾ وقوله : ﴿لَقَدْ عَلِمْتَ مَا أَنزَلَ هَـؤُلاء إِلاَّ رَبُّ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ بَصَآئِر﴾ .
وكل من أنكر وجود الله تعالى فلا يخلو من العناد والكبر .
أما غير المعاند فإنه يعترف بأن الله لا منازع له في الملك والإيجاد والقهر والتدبير ولا مشارك له فيه ولا معين ، كما قال تعالى : ﴿قُلِ ادْعُوا الَّذِينَ زَعَمْتُم مِّن دُونِ اللَّهِ لَا يَمْلِكُونَ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ فِي السَّمَاوَاتِ وَلَا فِي الْأَرْضِ وَمَا لَهُمْ فِيهِمَا مِن شِرْكٍ وَمَا لَهُ مِنْهُم مِّن ظَهِيرٍ فاصل الآيات وَلَا تَنفَعُ الشَّفَاعَةُ عِندَهُ إِلَّا لِمَنْ أَذِنَ لَهُ﴾ [ سبأ : 22 ، 23] .
والله عز وجل فطر جميع خلقه على معرفة هذا النوع من التوحيد ، فلذلك يلجأون إليه عند النوائب ويفزعون إلى الله كلما ألجأتهم الأزمات ، وألمت بهم الكربات ، وأصابتهم النكبات ، فيخلصون له العبادة عند ذلك ، كما لجأ إليه كبراء الملاحدة وقت الشدة مثل فرعون وذويه ، فقد أخبر الله تعالى أنهم أنكروا وجود الله تعالى ، وقت المجادلة لموسى عليه العافية ، فلما أدركهم الغرق ، ذهب عنادهم ، واعترفوا بالحق الذي كانوا ينكرونه عنادا ، قال الله تعالى : ﴿وَجَاوَزْنَا بِبَنِي إِسْرَائِيلَ الْبَحْرَ فَأَتْبَعَهُمْ فِرْعَوْنُ وَجُنُودُهُ بَغْياً وَعَدْواً حَتَّى إِذَا أَدْرَكَهُ الْغَرَقُ قَالَ آمَنتُ أَنَّهُ لا إِلِـهَ إِلاَّ الَّذِي آمَنَتْ بِهِ بَنُو إِسْرَائِيلَ﴾ [يونس : 90] .
وقال تعالى : ﴿قُلْ أَرَأَيْتُكُم إِنْ أَتَاكُمْ عَذَابُ اللّهِ أَوْ أَتَتْكُمُ السَّاعَةُ أَغَيْرَ اللّهِ تَدْعُونَ إِن كُنتُمْ صَادِقِينَ فاصل الآيات بَلْ إِيَّاهُ تَدْعُونَ فَيَكْشِفُ مَا تَدْعُونَ إِلَيْهِ إِنْ شَاء وَتَنسَوْنَ مَا تُشْرِكُونَ فاصل الآيات﴾ [الأنعام : 40 ، 41 ] . وهذا صريح في أنهم يعلمون أن الله هو المالك لكل شيء المتصرف فيه بما شاء ، ولهذا صار الإقرار بهذا النوع من التوحيد لا ينفع ولا ينجى من العذاب حتى ينضاف إليه توحيد القصد والنية والإرادة والتوجه ، والمقر بتوحيد التصرف والملك لا يصير به مسلماً كما دلت على ذلك آيات كثيرة من كتاب الله تعالى ، قال تعالى : ﴿وَلَئِن سَأَلْتَهُم مَّنْ خَلَقَهُمْ لَيَقُولُنَّ اللَّهُ﴾ [الزخرف : 87] . وقال تعالى : ﴿قُلْ مَن يَرْزُقُكُم مِّنَ السَّمَاءِ وَالأَرْضِ أَمَّن يَمْلِكُ السَّمْعَ والأَبْصَارَ وَمَن يُخْرِجُ الْحَيَّ مِنَ الْمَيِّتِ وَيُخْرِجُ الْمَيَّتَ مِنَ الْحَيِّ وَمَن يُدَبِّرُ الأَمْرَ فَسَيَقُولُونَ اللّهُ فَقُلْ أَفَلاَ تَتَّقُونَ﴾ [يونس : 31] . وقال تعالى : ﴿وَلَئِن سَأَلْتَهُم مَّن نَّزَّلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَأَحْيَا بِهِ الْأَرْضَ مِن بَعْدِ مَوْتِهَا لَيَقُولُنَّ اللَّهُ﴾ [العنكبوت : 63] . وآيات القرآن في هذا كثيرة ، وهي تدل على أن الكفار يؤمنون بهذا القسم من التوحيد ولم يجعلهم ذلك مسلمين ، بل فوق هذا كانوا يخلصون الدعاء لله – الذي هو توحيد العبادة – في حالة الاضطرار ، ثم يعودون إلى شركهم في الرخاء ، كما قال الله تعالى عنهم : ﴿فَإِذَا رَكِبُوا فِي الْفُلْكِ دَعَوُا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ فَلَمَّا نَجَّاهُمْ إِلَى الْبَرِّ إِذَا هُمْ يُشْرِكُونَ﴾ [العنكبوت : 65] ، ومعنى قوله تعالى ﴿دَعَوُا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ﴾ أنهم توجهوا إلى الله وحده بالعبادة ، من الدعاء ، والذل ، والخضوع ، والرغبة والخوف ، والالتجاء ، لعلمهم أن شركاءهم لا يملكون لهم نفعا ، ولا يستطيعون دفعا عنهم ، وإنما الأمر كله بيد الله تعالى وحده . والذي صيرهم مشركين وأوجب خلودهم في النار هو زعمهم أن أصنامهم ومن يتوجهون إليهم يشفعون لهم عند الله كما قال الله تعالى : ﴿وَيَعْبُدُونَ مِن دُونِ اللّهِ مَا لاَ يَضُرُّهُمْ وَلاَ يَنفَعُهُمْ وَيَقُولُونَ هَـؤُلاء شُفَعَاؤُنَا عِندَ اللّهِ قُلْ أَتُنَبِّئُونَ اللّهَ بِمَا لاَ يَعْلَمُ فِي السَّمَاوَاتِ وَلاَ فِي الأَرْضِ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى عَمَّا يُشْرِكُونَ﴾ [يونس : 18] . والمعنى أن الله لا يعلم أحدا يشفع عند لهؤلاء لا من أهل السماء ولا من أهل الأرض ، لأن الشفاعة لله وحده ولا أحد يستطيع أن يشفع عنده حتى يأمره بذلك ويأذن له فيمن يشفع فيه ، وإذا كان الله تعالى لا يعلم شافعا لهم لا في السماوات ولا في الأرض فالشافع لا وجود له .
روى الحاكم والدارقطني وابن مردويه : «أن النبي صلى الله عليه وسلم لما فتح مكة فر عكرمة بن أبى جهل فركب البحر ، فأصابهم عاصف ، فقال أصحاب السفينة : اخلصوا فإن آلهتكم لا تغنى عنكم هاهنا شيئاً ، فقال عكرمة : والله لئن لم ينجى في البحر إلا الإخلاص ، لا ينجيني في البر غيره اللهم إن لك على عهداً إن عافيتني مما أنا فيه أن آتى محمد حتى أضع يدي في يده فلا أجدنه إلا عفوا كريمًا . قال : فنجي فأسلم» [8].
قال قتادة : (الخلق كلهم يقرون لله أنه ربهم ، ثم يشركون بعد ذلك) [9].
شرك أهل هذا الزمان أعظم من شرك الجاهلية الأولى
المشركون اليوم أعظم شركا ممن بعث فيهم رسول الله صلى الله عليه وسلم . وبهذا يتبين سفاهة عقول مشركي هذا الزمان ، وعظم شركهم ، وأنه لم يصل إليه شرك السابقين . فمشركوا وقتنا هذا يخلصون الدعاء وتزداد إنابتهم ، ويتضاعف ذلهم وخضوعهم لمن يعبدونه من دون الله تعالى ممن يدعون لهم بالولاية ، عندما يقعون في الشدائد ، والكربات ، ويشركونهم مع الله تعالى حتى في الربوبية ، ويجعلون لهم التصرف والهداية وجلب النفع ، ودفع الضر بخلاف مشركي العرب زمن الرسول صلى الله عليه وسلم فما كان أحد منهم يدعى ذلك لآلهته وإنما كانوا يقولون : إنها تشفع لهم عند الله ، وتقربهم إليه تعالى ، كما قال تعالى عنهم : ﴿وَالَّذِينَ اتَّخَذُوا مِن دُونِهِ أَوْلِيَاء مَا نَعْبُدُهُمْ إِلَّا لِيُقَرِّبُونَا إِلَى اللَّهِ زُلْفَى﴾ [الزمر : 3] ومع ذلك لم يكن شركهم مستمرا في كل وقت كهؤلاء المشركين الذين يزعمون أنهم مسلمون ، بل في وقت الشدائد يخلصون العبادة لله تعالى كما سبق بعض الأدلة على ذلك .
ومن سفاهة هؤلاء أنهم جعلوا الشرك الذي هو أعظم الذنوب أفضل أعمالهم ، ورموا من أنكر عليهم ذلك بالجفاء ، وتنقص الأنبياء والأولياء ، وبأنهم خوارج يكفرون المسلمين . وذلك لأنهم جهلوا معنى الإله ، فظنوا أن معنى الإله الرب الخالق المحيى المميت ، القادر على كل شيء ، وظنوا أن الدعاء والاستغاثة ليست عبادة ، وسموا ذلك توسلا وتعلقا ، لأن القرآن صرح أن عبادة غير الله كفر ، واستبعدوا أن تكون هذه الأعمال التي أدركوا عليها آباءهم وقومهم شركا من أعمال المشركين ، فسموا العبادة غير اسمها لجهلهم دين الإسلام ولغته .
وجهلوا الشرك ، فظنوا أنه السجود للصنم ، والصلاة له ، واعتقاد أنه تدبير الأمور مع الله والتصرف في الكون ، واعتقدوا أن المشركين السابقين يعتقدون في آلهتهم هذا المعنى ، فحملوا آيات القرآن في الشرك على هذا المعنى .
قال صاحب فرقان القرآن في (ص 111) في تعريفه العبادة : (الإتيان بأقصى غاية المخضوع له أو قالبًا مع ذلك الاعتقاد، فإن انتفى ذلك الاعتقاد لم يكن ما أتى به من الخضوع الظاهري من العبادة شرعا في كثير ولا قليل ، مهما كان المأتى به ولو سجودا) .
وقال في ( ص 87 ) : (توحيد الربوبية وتوحيد الألوهية متلازمان عرفًا وشرعًا ، فالقول بأحدهما قول بالآخر ، والإشراك في أحدهما إشراك في الآخر ، فمن اعتقد أنه لا رب ولا خالق إلا الله لم ير مستحقا للعبادة إلا هو ومن اعتقد أنه لا يستحق العبادة غيره فذلك بناء منه على أنه لا رب إلا هو ، ومن أشرك مع الله غيره في العبادة إلا هو ومن اعتقد أنه لا يستحق العبادة غيره فذلك بناء منه على أنه لا رب إلا هو ، ومن أشرك مع الله غيره في العبادة كان لا محالة قائلا بربوبية هذا الغير هذا مالا يعرف الناس سواه) .
ونقل محمود حسن عن هذا الرجل أنه قال في مؤلَّف له آخر : (إن من ود الرب تعالى إنزال الغوث والرحمة على من يذكر أحباءه ويناديهم ويستغيث بهم ولو كانوا غائبين أو متوفين) . (ص65) ، كشف الشبهات .
وقال محمود حسن ربيع في كتابه كشف الشبهات أيضا : (إن استعانتك بالأولياء الذين تعتقد أن لهم حياة وتصرفا بأقدار الله ، ليس شركا ، وإن الشرك لو اعتقدت فيهم ربوبية) (ص57) . وقال في (ص 58) : (( فمن اتخذ من الأنبياء والأولياء وسيلة إلى الله لجلب نفع أو دفع ضر من الله فهو سائل الله )) ... (( ومن قال يا رسول الله أريد أن ترد على عينى ، أو ترفع عنا الجدب ، أو يزول عنا المرض ، وهو من المؤمنين كان ذلك دليلاً على أنه يطلب من الله )) .
فهذه التعريفات للعبادة والشرك أخذت من الواقع الذي عاش فيه هؤلاء وأحزابهم لا من الشرع الذي جاء به الرسول صلى الله عليه وسلم فأراد هؤلاء أن يكون الواقع الذي هم عليه متفقاً مع دين الإسلام ، فجمعوا بين المتضادات ، وواجب المكلف....................للشيخ الله الغنيمان رحمها الحقائق . فجعلوا الشرك توحيداً ، والتوحيد ضلالاً ، وسلوكاً لطريق الخوارج الذين يكفرون المسلمين ، واستبعدوا أن تكون هذه الأوضاع المنتشرة في سائر أنحاء البلاد الإسلامية هي التي كان يفعلها المشركون السابقون مع معبوداتهم ، لذلك حاولوا تبرير أفعالهم وجعلها على نهج الإسلام بأحاديث ملفقة أو موضوعة مكذوبة أو حكايات لا قيمة لها في الشرع الإسلامي، وأقل ما يقال في تلك الأحاديث أنها ضعيفة لا يجوز أن يعتمد عليها في فرع من فروع الشرع ، فكيف في أصل الأصول – العبادة – التي خلق الجن والإنس من أجلها ، وأرسلت الرسل وأنزلت الكتب لإقامتها وإخلاصها لله .
إن دعاة الوثنية لا يفتؤون يؤلفون الكتب ، ويزوقون الكلام بتحسين الشرك والثناء على أهله ، وتقبيح التوحيد ، وعيب أهله ودعاته ، ورميهم بالعظائم إتباعاً لأهوائهم ، وأغراضهم الدنيوية ، فهم يجهدون في تحريف أدلة الكتاب والسنة حتى تتفق مع ما يقولونه أو يفعلونه ، أو يفعله معظمهم من الرعاع أتباع كل ناعق ، ولهذا قال هؤلاء : (( العبادة هي الإتيان بأقصى غاية الخضوع قلبا وقالبا باعتقاد ربوبية المخضوع له ، فإن انتفى ذلك الاعتقاد – يعنى اعتقاد الربوبية – لم يكن المأتى به من العبادة في العبادة في كثير ولا قليل ولو كان سجوداً )) .
فهل يصدق العاقل أن المشركين – في عهد النبوة – الذين نزل فيهم القرآن – وهم أكمل عقولا من هؤلاء – يعتقدون أن الأحجار هي ربهم الذي يحيهم ويميتهم ، وينزل عليهم المطر وينبت الزرع والكلاء ، وما يقتاتونه هم وأنعامهم . قال الله تعالى : ﴿يَا أَيُّهَا النَّاسُ اعْبُدُواْ رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ وَالَّذِينَ مِن قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ فاصل الآيات الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الأَرْضَ فِرَاشاً وَالسَّمَاء بِنَاء وَأَنزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَأَخْرَجَ بِهِ مِنَ الثَّمَرَاتِ رِزْقاً لَّكُمْ فَلاَ تَجْعَلُواْ لِلّهِ أَندَاداً وَأَنتُمْ تَعْلَمُونَ فاصل الآيات﴾ [البقرة :21- 22] . أي تعلمون أن الله تعالى هو الفاعل لما ذكر في الآية من خلقهم وخلق من قبلهم ، وخلق الأرض وجعلها فراشا لهم يفترشونها وينتفعون بها بما شاءوا وخلق السماء وبناها وأنزل من السماء ماء فأنبت به الثمرات والأرزاق لكم ولأنعامكم فكيف تعبدون معه غيره مع علمكم أنه لا مشارك له في الخلق والرزق والإحياء والإماتة ، وتصريف أمور الكون .
(( وحال مشركي العرب مع أوثانهم معلومة ، وأنهم إنما كانوا يعتقدون حصول البركة منها بتعظيمها ودعائها ، والاستغاثة بها ، والاعتماد عليها في حصول ما يرجونه منها ويؤملونه ببركتها وشفاعتها ، فالتبرك بالصالحين وبقبورهم هو عين فعل المشركين باللات والعزى ، ومناة وسائر أوثانهم )) [10].
وهو العبادة التي أوجبت لهم الخلود في النار ، وحرمت عليهم الجنة ، وأخبر الله تعالى أنه لا يغفر ذلك إلا بالتوبة منه وفعل التوحيد الذي هو ضده .
وتسمية هذه الأفعال تبركا ، أو توسلا أو غير ذلك لا يغير من الحقائق شيئا ، فالشرك هو الاتجاه بالعبادة إلى غير الله مهما سمى ذلك ، ( وهو نوعان : شرك في الربوبية وشرك في الإلهية ) .
فالأول : إثبات فاعل مستقل غير الله تعالى كمن يجعل الإنسان مستقلاً بأحداث فعله مهما كانت مرتبته نبيا فما دونه ، وكذا من يجعل الكواكب أو الأجسام الطبيعية ، أو العقول كما تقوله الفلاسفة ، أو النفوس كما يقوله عباد القبور ، أو الملائكة أو غير ذلك من المخلوقات ، من جعل شيئاً من ذلك مستقلاً بشيء من الأحداث فهو مشرك في الربوبية .
(( وكل ما سوى الخالق الواجب الوجود بنفسه مفتقر إلى غيره ، فلا يتم به حدوث حادث ، ولا وجود ممكن ، وجمهور العرب لم يكن شركها من هذا النوع ، بل كانت مقرة بأن الله خالق كل شيء وربه ومليكه ، وإنما كان من الشرك في العبادة )) .
والنوع الثاني من الشرك : الشرك في الإلهية ، وهو أن يجعل مع الله أحداً من خلقه يتوجه إليه في عبادته أو محبته أو خوفه أو رجائه ، أو إنابته أو أي نوع من أنواع العبادة ، وضد هذا الشرك التوحيد في الإلهية ، وهو عبادة الله تعالى وحده لا شريك له ، فإن المشركين المقرين بأن الله رب كل شيء كانوا يتخذون آلهة يستجلبون بعبادتها المنافع ، ويستدفعون بها المضار ، ويتخذونها وسائل تقربهم إلى الله زلفى ، وشفعاء يستشفعون بها إليه ، وهذه الآلهة خلق من خلقه لا يملكون لأحد نفعاً ولا ضراً إلا بإذنه ، فكل ما يطلب منهم لا يحصل منه شيء إلا بإذن الله تعالى ، وهو عز وجل لم يأمر بعبادة غيره ، ولم يجعل هؤلاء شفعاء ووسائل تقرب إليه ، قال تعالى : ﴿وَاسْأَلْ مَنْ أَرْسَلْنَا مِن قَبْلِكَ مِن رُّسُلِنَا أَجَعَلْنَا مِن دُونِ الرَّحْمَنِ آلِهَةً يُعْبَدُونَ﴾ [الزخرف : 45] . وقال تعالى : ﴿وَمَا أَرْسَلْنَا مِن قَبْلِكَ مِن رَّسُولٍ إِلَّا نُوحِي إِلَيْهِ أَنَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا أَنَا فَاعْبُدُونِ﴾ [الأنبياء : 25] . وقال تعالى : ﴿وَيَعْبُدُونَ مِن دُونِ اللّهِ مَا لاَ يَضُرُّهُمْ وَلاَ يَنفَعُهُمْ وَيَقُولُونَ هَـؤُلاء شُفَعَاؤُنَا عِندَ اللّهِ قُلْ أَتُنَبِّئُونَ اللّهَ بِمَا لاَ يَعْلَمُ فِي السَّمَاوَاتِ وَلاَ فِي الأَرْضِ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى عَمَّا يُشْرِكُونَ﴾ [يونس : 18] . ( والمعنى أن الله تعالى لا يعلم أن أحدا يشفع عنده لهؤلاء لا في السماوات ولا في الأرض فلا وجود لذلك ) .
فبين الله تعالى في هذه الآيات وغيرها أنه لم يشرع عبادة غيره ، ولا أذن في ذلك ، بل أخير أنه لو كان في السماوات أو الأرض آلهة إلا الله لفسدتا ، فإنه كما يمتنع أن يكون غيره ربا فاعلاً متصرفا ، يمتنع أن يكون إلها معبودا ) [11].
(( والإنسان بل وجميع الكائنات عباد لله تعالى ، فقراء إليه مماليك له ، وهو ربهم المتصرف فيهم ، وهو إلههم لا إله إلا هو ، فالمخلوق ليس له من نفسه شيء أصلاً ، بل نفسه وصفاته وأفعاله ، وما ينتفع به أو يستحقه إنما هو من خلق الله تعالى . هو الذي أوجده ومن به ،وفقر المخلوق وعبوديته أمر لازم له ، لا ينفك عنه بحال ، ولا وجود له بدون ربه الحاجة إليه ضرورية لكل المخلوقات لأنها ملك لخالقها وموجدها إذ لا قيام لها بدونه ، ولكن الناس أو أكثرهم تعزب قلوبهم عن شهود هذه الحاجة الملحة وهذا الفقر الاضطراري ))[12] . وتشهد توحيد الربوبية العام ، الذي تشترك في شهوده سائر المخلوقات ، وهو أنه لا خالق إلا الله كان وما لم يشأ لم يكن ، فكل ما سواه إذا كان سبباً فلابد له من شريك معاون ، وضد معوق ، فإذا طلب العبد من غير إحداث أمر من الأمور، فقد طلب منه مالا يستقل به ، ولا يقدر عليه وحده ، حتى أفعال العبد الاختيارية لا يستطيع فعلها إلا بإعانة الله عليها بأن يجعله فاعلاً بما يخلقه فيه من الإرادة الجازمة ، والقدرة على ذلك الفعل .
فمشيئة الله وحده هى المستلزمة لكل ما يريد فما شاء كان ، وما لم يشأ لم يكن وما سواه لا تستلزم إرادته شيئاً ، بل ما أراده لا يكون إلا بأمور خارجة عن مقدوره ، إن لم يعنه الرب بها لم يحصل مراده ، ونفس إرادته لا تحصل إلا بمشيئة الله تعالى كما قال تعالى : ﴿وَمَا تَشَاؤُونَ إِلَّا أَن يَشَاءَ اللَّهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ﴾ . [التكوير : 29] .
وبهذا يتبين أن السائل للمخلوق يسأله مالا يستقل بملكه ، هذا إذا كان المسؤول بمقدوره ظاهراً ، فكيف إذا سأله مالا يقدر عليه أصلا مثل الشفاعة عند الله لأنها لا تكون إلا بإذنه ، ومثل هداية القلوب ، وشفاء الأمراض ونحو ذلك .
والراجى لمخلوق ، طالب بقلبه لما يريده من ذلك المخلوق ، والمطلوب منه عاجز عن المطلوب ، ولهذا صار ذلك من الشرك الذي لا يغفره الله إلا بالتوبة منه .
ومن نعم الله على عبده أن يمنع مطلوبه بالشرك ، ليصرف قلبه إلى توحيد الله تعالى فإن وحَدّه الإلهية حصلت له سعادة الدنيا والآخرة ، وإن كان ممن قال الله فيهم : ﴿وَإِذَا مَسَّ الإِنسَانَ الضُّرُّ دَعَانَا لِجَنبِهِ أَوْ قَاعِداً أَوْ قَآئِماً فَلَمَّا كَشَفْنَا عَنْهُ ضُرَّهُ مَرَّ كَأَن لَّمْ يَدْعُنَا إِلَى ضُرٍّ مَّسَّهُ﴾ [يونس : 12] . كان ما حصل له من توحيد حجة عليه ، كما احتج سبحانه على أمثاله من المشركين ، الذين يقرون بأنه خالق كل شيء ثم يشركون غيره معه في العبادة ، ولا يخلصونها له ، قال تعالى : ﴿قُل لِّمَنِ الْأَرْضُ وَمَن فِيهَا إِن كُنتُمْ تَعْلَمُونَ فاصل الآيات سَيَقُولُونَ لِلَّهِ قُلْ أَفَلَا تَذَكَّرُونَ فاصل الآيات قُلْ مَن رَّبُّ السَّمَاوَاتِ السَّبْعِ وَرَبُّ الْعَرْشِ الْعَظِيمِ فاصل الآيات سَيَقُولُونَ لِلَّهِ قُلْ أَفَلَا تَتَّقُونَ فاصل الآيات قُلْ مَن بِيَدِهِ مَلَكُوتُ كُلِّ شَيْءٍ وَهُوَ يُجِيرُ وَلَا يُجَارُ عَلَيْهِ إِن كُنتُمْ تَعْلَمُونَ فاصل الآيات سَيَقُولُونَ لِلَّهِ قُلْ فَأَنَّى تُسْحَرُونَ فاصل الآيات﴾ [13] . [ المؤمنون : 84-89] . وهذا كثير في القرآن ، وهو يدل على ما تقدم من أن الإقرار بتوحيد الربوبية ، وبوجود الله تعالى أمر فطرى مسلم به عند جميع الخلق ، إلا من أخذته العزة بالإثم فكابر عقله ، وخالف فطرته ، وعاند الحق ، ولهذا لم تكن رسالة الرسل في الناس إلى الإيمان بوجود الله تعالى ، والإقرار بربوبيته ، إذ كان هذا مستقراً في القلوب .
ولذلك جعل الله تعالى هذا دليلاً وحجة على وجوب التزام القسم الثاني من التوحيد ، الذي هو توحيد العبادة .
فالإقرار بالخالق ، وكماله يكون فطرياً ضرورياً في حق من سلمت فطرته من الانحراف ، ومع ذلك فقد قامت عليه الأدلة الكثيرة ، لأنه قد يحتاج إليها كثير من الناس لفساد فطرهم وتغيرها ولأحوال تعرض لهم ، وإن كانت مسألة الإقرار بوجود الله – كما قلنا – ليست من المسائل التي تحتاج إلى برهان ، (( فإن الفطر الإنسانية السليمة تشهد بضرورة فطرتها وبديهة فكرتها على خالق حكيم ، قادر عليم )) . ﴿أَفِي اللّهِ شَكٌّ ﴾ ﴿وَلَئِن سَأَلْتَهُم مَّنْ خَلَقَهُمْ لَيَقُولُنَّ اللَّهُ﴾ ومن غفل عن هذه الفطرة في حال السراء ، فإنه يلوذ بها في حال الضراء . ﴿وَإِذَا مَسَّكُمُ الْضُّرُّ فِي الْبَحْرِ ضَلَّ مَن تَدْعُونَ إِلاَّ إِيَّاهُ﴾ .
أنواع الأدلة الدالة على الله تعالى
فالأدلة على الله تعالى كثيرة : منها ما شهدت به الفطر السليمة من احتياج المخلوق إلى مدبر هو منتهى طلبه ، يرغب إليه ، ولا يرغب عنه ، ويستغنى به ، ولا يستغنى عنه ، ويفزع إليه في الشدائد ، واحتياج الإنسان في نفسه أوضح من احتياج الممكن الخارجي إلى موجد ، والحادث إلى محدث ، ولهذا ذكر الله تعالى هذا المعنى محتجًّا به على وجوب عبادته كما قال تعالى : ﴿أَمَّن يُجِيبُ الْمُضْطَرَّ إِذَا دَعَاهُ وَيَكْشِفُ السُّوءَ وَيَجْعَلُكُمْ خُلَفَاء الْأَرْضِ أَإِلَهٌ مَّعَ اللَّهِ قَلِيلاً مَّا تَذَكَّرُونَ﴾ [النمل : 62] . ومن رجع إلى نفسه أدنى رجوع عرف احتياجه إلى ربه في الآفاق ، والملكوت تدل دلالة واضحة على الله تعالى ، ولكن المعارف التي تحصل من تعريفات أحوال الاضطرار أشد رسوخاً في القلب من المعارف التي هي نتائج الأفكار في حالة الاختيار [14].
وكذلك النظر في مخلوقات الله تعالى ، وما فيها من العجائب ، وإتقان الصنعة ، وباهر الحكمة ، وتقلب الليل والنهار ، ودوران الشمس والقمر والنجوم ، وما يتجدد في طلوعها وغروبها ، ودوران الأفلاك ، وهبوب الرياح ، والسحاب المسخر بين السماء والأرض يحمل الماء إلى حيث يشاء الله ، وعوالم المخلوقات مما يطول وصفه .
ومن ذلك خلق الإنسان من نطفة مستوية الأجزاء ، متنقلة الأطوار ، وعظاما وعصبا ، وبصرا وعقلا وإدراكا ، وما يشم ، وما يطعم ، وما يمشى على بطنه وما يمشى على أربع وما بمشي على رجلين ، وذكر وأنثى ، وهل يمكن أن يكون أن المداد بنفسه كتاباً معرباً مرتب المعاني والمواضيع منسق الكتابة والحروف بطبيعة المداد من غير كاتب عالم . ﴿قُتِلَ الْإِنسَانُ مَا أَكْفَرَهُ﴾ .... الآيات .
ومن ذلك المعجزات التي جاءت بها الأنبياء وهى من أوضح الدلائل على الله تعالى مثل إحياء الموتى ، وجعل العصا التي هي عود يابس مقطوع من شجرة حية تلتهم ما أمامها ، وفلق البحر بضربه بالعصا ، وقلب طبيعة النار ومنعها من الإحراق ، وإنباع الماء من أصابع الرسول e حتى يتوضأ منه الجمع الكثير ، وتكثير الطعام القليل حتى يتزود منه الجيش بأكمله وغير ذلك كثير جدا .
ولما كان الطريق إلى الحق هو السمع والعقل ، وهما متلازمان ، كان من سلك الطريق العقلي دله على الطريق السمعي بين الأدلة العقلية ، كما بين ذلك القرآن .
وكان الشقي المعذب من لم يسلك لا هذا ولا هذا كما قال أهل النار : ﴿وَقَالُوا لَوْ كُنَّا نَسْمَعُ أَوْ نَعْقِلُ مَا كُنَّا فِي أَصْحَابِ السَّعِير﴾ [الملك : 10] . قال الله تعالى : ﴿أَفَلَمْ يَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَتَكُونَ لَهُمْ قُلُوبٌ يَعْقِلُونَ بِهَا أَوْ آذَانٌ يَسْمَعُونَ بِهَا فَإِنَّهَا لَا تَعْمَى الْأَبْصَارُ وَلَكِن تَعْمَى الْقُلُوبُ الَّتِي فِي الصُّدُورِ﴾ [الحج : 46] .
والإلحاد يعرض لكثير من الناس ، ويتبناه بعضهم إما ظاهراً دون باطن كحال فرعون ونحوه من المجرمين ، وإما باطناً وظاهراً كحال ملاحدة اليوم .
والإلحاد لا يمنع أن تكون معرفة الله مستقرة في الفطرة ، ثابتة بالضرورة ، لأن إنكار وجود الله تعالى حال تعرض لكثير من الناس عمداً أو خطأ واغترارا ، مع أن كثيراً من الناس قد ينازع في كثير من القضايا البديهية ، والمعارف الفطرية ، من الحسيات والحسابيات ، والإلهيات ، ومن تأمل ما يذكره أصحاب المقالات في العلوم المختلفة رأى عجائب وغرائب ، فمن الطرائف في هذا ما ذكر أن رجلاً صنف كتاباً في نفي العلوم فمات له ولد قد قارب الحلم فقال : أسفت لموت ولدى قبل أن يقرأ كتابي ، فقيل له : وم
بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله رب العالمين، ولا عدوان إلا على الظالمين، والصلاة و السّلام على رسولنا محمد وعلى آله و أصحابه أجمعين .
السلام عليكم و رحمة الله و بركاته.
أول واجب على المكلف
الشيخ/عبد الله الغنيمان رحمه الله
الحمد لله الغنى الحميد، المبدئ المعيد ، غنيٌ بذاته عن كل من سواه ، وكل من سواء فقير إليه ، وصائر إليه ، وهو تحت قهره وتصرفه ، وصلى الله وسلم على عبده ورسوله محمد وعلى آله وصحبه وأتباعه إلى يوم الدين .
وبعد ، فإن الله تعالى خلق الإنسان وفضله على كثير من خلقه ، بالعقل والفكر والنطق والبيان ، ووهبه القدرة على دارين ، دارًا للابتلاء والاختبار والتمييز بين الصالح والفاسد ، ومحلا لكسب الأعمال ، التي بها يستوجب الثواب أو العقاب ، وجعل لها مدة محددة ، قال تعالى : ﴿تَبَارَكَ الَّذِي بِيَدِهِ الْمُلْكُ وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌفاصل الآياتالَّذِي خَلَقَ الْمَوْتَ وَالْحَيَاةَ لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلاً وَهُوَ الْعَزِيزُ الْغَفُورُفاصل الآيات﴾ [ الملك 1-2] .
فالله تعالى أوجد الإنسان بعد أن كان معدوماً، وأعطاه ما يحتاج إليه في حياته وما يكون سببًا لسعادته من العقل والفكر الذي يميز ما ينفعه مما يضره وما يلزم لذلك من السمع والبصر ، والقوى التي يتمكن بها من العمل . قال تعالى ﴿هَلْ أَتَى عَلَى الْإِنسَانِ حِينٌ مِّنَ الدَّهْرِ لَمْ يَكُن شَيْئاً مَّذْكُوراً فاصل الآيات إِنَّا خَلَقْنَا الْإِنسَانَ مِن نُّطْفَةٍ أَمْشَاجٍ نَّبْتَلِيهِ فَجَعَلْنَاهُ سَمِيعاً بَصِيراً فاصل الآيات إِنَّا هَدَيْنَاهُ السَّبِيلَ إِمَّا شَاكِراً وَإِمَّا كَفُوراً فاصل الآيات﴾ [ الإنسان 1-3] فقوله تعالى : ﴿لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلاً﴾.
وقوله: ﴿ نَّبْتَلِيهِ﴾ هذا ما خلق الإنسان من أجله ، وقد بين ذلك تعالى بيانًا واضحًا وضوح النهار .
قال تعالى : ﴿وَلَقَدْ بَعَثْنَا فِي كُلِّ أُمَّةٍ رَّسُولاً أَنِ اعْبُدُواْ اللّهَ وَاجْتَنِبُواْ الطَّاغُوتَ فَمِنْهُم مَّنْ هَدَى اللّهُ وَمِنْهُم مَّنْ حَقَّتْ عَلَيْهِ الضَّلالَةُ﴾ [النحل :36].
وقال تعالى : ﴿وَمَا أَرْسَلْنَا مِن قَبْلِكَ مِن رَّسُولٍ إِلَّا نُوحِي إِلَيْهِ أَنَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا أَنَا فَاعْبُدُونِ﴾ [الأنبياء : 25].
وفى القرآن آيات كثيرة تنص على وجوب عبادة الله تعالى ، وتبين لروم ذلك للإنسان لزوم أمر أوجبه الله تعالى عليه ، وأكثر تعالى من التهديد والوعيد لمن تركه ، وأعرض عنه ، ومن الترغيب والوعد بالجزاء الجميل لمن امتثل ذلك واتبع الرسل ، ومع وضوح هذا الأمر وكثير ما أحبط به من ترغيب في فعله في الدنيا والآخر، ومن ترهيب لمن أعرض عنه وجانبه مع ذلك كله فقد ضل عنه أكثر الخلق إما جهلا ً، وأما عمداً وعناداً، وذلك أن الذي يحمل العبد على امتثال أمر الله واتباع رسله هو قوة الإيمان بالله ،وبما أعده لمن آمن به وعمل صالحا وما أعد لمن عصاه وبارزه بالمعاداة والمحاربة .
العلم بما يؤمن به شرط في صحة إيمانه
ومع الإيمان فلابد من العلم بأمره وشرعه ، ومع فقد هذين الأمرين يستحكم الضلال ، والبعد عن كل خير ، لهذا صار أهم ما على العبد معرفته ، ما أوجبه الله عليه ، والعمل به ، وأول ما أوجب الله تعالى على العبد و أعظمه هو الإيمان به تعالى وبرسوله ، ثم الاهتداء إلى ذلك وتفاصيله بالوحي الذي جاء به النبي صلى الله عليه وسلم قال تعالي :﴿قُلْ إِن ضَلَلْتُ فَإِنَّمَا أَضِلُّ عَلَى نَفْسِي وَإِنِ اهْتَدَيْتُ فَبِمَا يُوحِي إِلَيَّ رَبِّي﴾. [سبأ : 50] فالاهتداء يكون بالوحي ولهذا أمر الله تعالى أهل العقل بتدبر القرآن واستماعه والإنصاف لتلاوته، وخض فيه على التدبر والتفكر والتذكر والعقل والفهم والتأثر منه بالوجل، والبكاء والخشية لما فيه من العلم والهدى ، والمقصود من إرسال الرسل إلى العباد ، وإنزال الكتب عليهم إصلاح أحوالهم في الدنيا والآخرة ، وأن يعرفوا ما خلقوا من أجله ، ويصلوا إليه ، وهو عبادة ربهم وحده لا شريك له .
العبادة النافعة عبادة القلب الموجبة لعمل الجوارح
والعبادة أصلها عبادة القلب ، المستلزمة لعبادة الجوارح ، فإن القلب هو الملك، والأعضاء جنوده ، وإذا صلح الملك صلحت جنوده ، كما قال صلى الله عليه وسلم : «ألا إن في الجسد مضغة إذا صلحت صلح لها سائر الجسد ، وإذا فسدت فسد لها سائر الجسد ألا وهى القلب» [1].
والقلب بعبادة الله تعالى والاستعانة به : معتصم مستمسك قد لجأ إلى ركن وثيق ، واعتصم بالدليل الهادي والبرهان المتين ، فلا يزال في زيادة من العلم والإيمان ، أو سلامة من الجهل والضلال ، سالمًا من جهل أهل التصوف وعباد الخلق ، وضلال المتكلمين أهل الشك والحيرة والخذلان . والعبد لما كان مخلوقا مربوباً ، عاد في علمه وعمله إلى خالقه وباريه فبه يهتدي وله يعمل ، واليه يصير ، فلا غنى له عنه ، وانصرافه إلى غيره هو عين هلاكه وفساده ، وبالله له عن كل شيء عوض ، وليس لكل شيء عن الله عوض ، وليس للعبد صلاح ولا فلاح إلا بمعرفة ربه وعبادته ، فإذا حصل له ذلك فهو الغاية المرادة له والتي خلق من أجلها ، فما سوى ذلك إما فضل نافع أو فضول غير نافعة أو فضول ضارة ، ولهذا صارت دعوة الرسل لأممهم إلى الإيمان بالله وعبادته ، فكل رسول يبدأ دعوته بذلك كما يعلم من تتبع دعوات الرسل في القرآن ، بخلاف الطرق الكلامية الفلسفية فإنهم يبدأون بنفوسهم فيجعلونها هي الأصل الذي يفرعون عليه ، فيتكلمون في إدراكاتهم للعلم ، أنه مرة يكون بالحس ومرة بالعقل ، أو بهما .
ويجعلون العلوم الحسية والبديهية هي الأصل الذي لا يحصل علم إلا بها حد زعمهم ، مثل الأمور الطبيعية والحساسة ، والأخلاق ، وبنوا سائر العلوم على الأمور الثلاثة ، إن الواحد نصف الاثنين ، والعشرة أكثر الخمسة ، والجسم لا يكون في مكانين ، والضدان لا يجتمعان كالسواد والبياض ، هذا في الحسابية والطبيعية ، وأما الأخلاق فمثل استحسان العلم ، والعدل والعفة والشجاعة .
ثم إذا تجاوزوا هذه الأمور إلى العالم العلوي فمقصودهم إثبات خالق العالم والدلائل التي بها تثبت النبوة على طريقهم فإذا ثبتت النبوة على طريقهم فإذا ثبتت النبوة تلقوا عنها السمعيات، وهى الكتاب والسنة والإجماع ، وهذه الطريقة فيها فساد كثير في وسائلها ومقاصدها كما بين ذلك شيخ الإسلام ابن تيمية في كثير من كتبه ، أما الوسائل مع صعوبتها ففيها خطورة ومزلات عظيمة وأما مقاصدها فغايتها إثبات ربوبية الله تعالى للكون فهى كما قيل لحم جمل غث ، على رأس جبل وعر ، لا سهل فيرتقى ، ولا سمين فينتقل ، مثال ذلك قولهم كما في نهاية المرام والإرشاد وغيرهما : (( إن الله لا يعرف إلا بإثبات حدوث العالم ثم الاستدلال بذلك على محدثه ، والدليل على أن العالم حادث ، ما فيه من الأعراض ، والأعراض هي صفات الأجسام )) [2]. وجمهور المتكلمين يستولون بهذا الدليل بعينه على نفى صفات الله تعالى حيث قالوا : إن حركات الأجسام وأعراضها هو الذي دل على حدوثها ، وسموا الصفات أعراضًا مثل العلم والرحمة والغضب والرضا وغير ذلك وقالوا : إذا اتصف بذلك صار محلا للحوادث ،وما كان محلا للحوادث فهو حادث .
والقدرية من المعتزلة يعتقدون أثبات الرب تعالى لا يمكن إلا بعد اعتقاد أن العبد هو المحدث لأفعاله ، وإلا انتفض الدليل . وكثير منهم جعل سلوك هذا متعينًا لأنه الموصل إلى معرفة الله ، ومن لم يسلك ذلك لم يعرف ربه . وبطلان هذا معلوم بالكتاب والسنة وإجماع أئمة المسلين . قال الله تعالى : ﴿وَمَا أُمِرُوا إِلَّا لِيَعْبُدُوا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّين﴾ [البينة : 5] . وقال تعالى : ﴿فَاعْبُدِ اللَّهَ مُخْلِصاً لَّهُ الدِّينَ﴾ . [الزمر : 2] . وقال : ﴿يَا أَيُّهَا النَّاسُ اعْبُدُواْ رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ وَالَّذِينَ مِن قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ﴾. [البقرة : 21] . وهذا كثير في القرآن يأمر الله تعالى أن يعبد ويخلص له الدين ، وأن يؤمن به ابتداء ، وكذلك النبي صلى الله عليه وسلم لم يدع الناس إلى النظر ابتداء بالاستدلال على وجود الله تعالى ، ولا إلى مجرد إثبات وجوده ، بل أول ما دعاهم إليه شهادة أن لا إله إلا الله وأن محمداً رسول الله ، وكان يأمر رسله والدعاة الذين يبعثهم لنشر دعوته بأن يبدؤوا بدعوة الناس إلى أن يوحدوا الله أولاً بأن يشهدوا أن لا إله إلا الله وأن محمدًا رسول الله كما في حديث معاذ المتفق على صحته حينما بعثه إلى أهل اليمن قال : «إنك تأتي قوماً من أهل الكتاب ، فليكن أول ما تدعوهم إليه شهادة أن لا إله إلا الله ، وأن محمدًا رسول الله ، فإن هم أجابوك لذلك فأعلمهم أن الله افترض عليهم خمس صلوات في اليوم والليلة ، فإن هم أجابوك لذلك فأعلمهم أن الله افترض عليهم صدقة تؤخذ من أغنيائهم فترد في فقرائهم» [3].
وقوله في حديث أبى هريرة الذي في الصحيحين وحديث ابن عمر : «أمرت أن أقاتل الناس حتى يشهدوا أن لا إله إلا الله وأنى رسول الله ، فإذا فعلوا ذلك عصموا منى دماءهم وأموالهم إلا بحقها وحسابهم على الله» [4]. وقد أجمع الصحابة وأئمة المسلمين من بعدهم على أن الكافر يدعى إلى الشهادتين مهما كانت عقيدته وعمله فإذا أجاب ونطق بالشهادتين حكم بإسلامه ظاهراً ، فإن كان صادقاً فإن كان صادقاً في نطقه فهو مسلم ظاهرًا وباطنًا ، وإن كان كاذبًا في الباطن فهو منافق .
وليس في كتاب الله أن النظر أول الواجبات ، بل ولا فيه إيجاب النظر على كل أحد ، وإنما فيه الأمر بالنظر لبعض الناس الذين لا يحصل لهم الإيمان إلا به كقوله تعالى : ﴿َوَلَمْ يَتَفَكَّرُواْ مَا بِصَاحِبِهِم مِّن جِنَّةٍ إِنْ هُوَ إِلاَّ نَذِيرٌ مُّبِينٌ فاصل الآيات أَوَلَمْ يَنظُرُواْ فِي مَلَكُوتِ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ وَمَا خَلَقَ اللّهُ مِن شَيْءٍ وَأَنْ عَسَى أَن يَكُونَ قَدِ اقْتَرَبَ أَجَلُهُمْ فَبِأَيِّ حَدِيثٍ بَعْدَهُ يُؤْمِنُونَ فاصل الآيات﴾ [الأعراف : 184- 185] .
فقول الجويني مثلا في الإرشاد (ص3) : (( أول ما يجب على العاقل البالغ ، باستكمال سن البلوغ أو الحلم شرعاً ، القصد إلى النظر الصحيح المفضي إلى العلم بحدوث العالم)) ومثل ذلك قال الرازي ( انظر المحصل ص 47) وكذلك الإيجي في المواقف (ص32) وغيرهم ، وهذا كلام مخالف لكتاب الله تعالى ولما علم من دعوة رسول الله صلى الله عليه وسلم ، ولما أجمع عليه أئمة المسلمين ، وإذا سلم لهؤلاء ، ((أن أول الواجبات هو النظر ، أو المعرفة أو المعرفة أو حتى الشهادتين كما هو الصحيح . فكيف يجب على البالغ أن يفعله عقب البلوغ وقد فعله قبل ذلك ، وخصوصاً إذا كان النظر مستلزماً للشك المنافي لما حصل له من المعرفة والإيمان ، فيكون التقدير أن يقال : اكفر ثم آمن ، واجهل ثم اعرف وهذا كما أنه محرم شرعاً ، فهو ممتنع في العقل ، فإن تكليف مالا يقدر عليه ، فإن الجاهل يمكن أن يصير عالماً أما العالم فلا يقدر أن يصير جاهلاً )) .
كما أن من رأى الشيء وسمعه لا يمكن أن يقال لا يعرفه ، فمن كان الله قد أنعم عليه بالإيمان وشرح صدره للإسلام قبل بلوغه كيف يؤمر بما يناقض إيمانه ومعرفته .
قال ابن المنذر : (أجمع كل من أحفظ عنه من أهل العلم على أن الكافر إذا قال : أشهد أن لا إله إلا الله ، وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله ، وإن كل ما جاء به محمد حق ، وأبرأ من كل دين خالف دين الإسلام ، وهو بالغ صحيح العقل أنه مسلم ، فإن رجع بعد ذلك فأظهر الكفر كان مرتدًا ، يجب عليه ما يجب على المرتد) ( الأوسط : ص 735 ) .
والسلف والأئمة متفقون على أن أول ما يؤمر به العباد الشهادتين ، وأن من فعل ذلك قبل البلوغ لم يؤمر بتجديد ذلك بعد البلوغ .
مجرد المعرفة لا تكفى في الإيمان
والشهادة تتضمن الإقرار بالله تعالى وبرسوله ، لكن مجرد معرفة الله تعالى لا تصير بها الإنسان مؤمنا وإن كان يعلم أنه رب كل شيء فلابد للإيمان من شهادة أن لا إله إلا الله وأن محمدًا رسول الله، وهذا هو الذي دل عليه كتاب الله تعالى . قال الله تعالى : ﴿وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ﴾ [الذاريات : 56] فالعبادة هي الغاية المقصودة من الخلق التي أرادها الله منهم بأمره وشرعه ، وبها يحصل محبوبه تعالى ، لأن الله تعالى لم يجعلهم عابدين له ، لما في ذلك من تفويت محبوبات له أخرى ، هي أحب إليه من عبادة أولئك وحصول مفاسد أخرى هي أبغض من معصيتهم كما قال تعالى :﴿وَلاَ يَزَالُونَ مُخْتَلِفِينَ فاصل الآيات إِلاَّ مَن رَّحِمَ رَبُّكَ وَلِذَلِكَ خَلَقَهُمْ﴾ [هود : 118: 119] فهو تعالى أراد كونية قدرية ، ففي قوله تعالى : ﴿وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ﴾ . ذكر الغاية التي أمروا بها ، وفى قوله تعالى : ﴿وَلاَ يَزَالُونَ مُخْتَلِفِينَ﴾ . ذكر الغاية التي يصيرون إليها ، وكلاهما مرادة له تعالى تلك مرادة بأمره وشرعه ، والموجود منها مراد بخلقه وأمره ، والأخرى مرادة بخلقه ، والمشروع منها مراد بخلقه وأمره ، والأخرى مرادة بخلقه ، والمشروع منها مراد بخلقه وأمره ، وهذا معنى ما يروى عن على بن أبى طالب في قول تعالى : ﴿إِلَّا لِيَعْبُدُونِ﴾ . قال معناه : إلا لآمرهم أن يعبدون ، وأدعوهم إلى عبادتي ، وقاله مجاهد أيضا .
وقال ابن عباس : ﴿إِلَّا لِيَعْبُدُونِ﴾ . ليقروا لي بالعبودية ، طوعاً وكرهاً .
وقال السدى : خلقهم للعبادة ، فمن العبادة عبادة تنفع ، ومنها عبادة لا تنفع كما قال تعالى : ﴿وَلَئِن سَأَلْتَهُم مَّنْ خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ لَيَقُولُنَّ اللَّهُ قُلِ الْحَمْدُ لِلَّهِ بَلْ أَكْثَرُهُمْ لَا يَعْلَمُونَ﴾ [لقمان : 25] فهذا منهم عبادة ولكنها لا تنفعهم ، وقال ال*****ي : إلا ليوحدوني ، فأما المؤمن فيوحده في الشدة والرخاء ، وأما الكافر فيوحده في الشدة والبلاء دون النعمة والرخاء ، كما قال تعالى : ﴿فَإِذَا رَكِبُوا فِي الْفُلْكِ دَعَوُا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ﴾ [العنكبوت : 65][5] .
معرفة الناس لربهم من لوازم خلقهم
وهذه الأقوال تبين أن جميع الإنس والجن مقرون بالخالق معترفون به ، خاضعون لعبوديته طوعاً وكرهاً ، وهذا يقتضى أن أصل الإقرار بالله تعالى ، والاعتراف به رباً مستقر في قلوب جميع الإنس الجن ، وأنه من لوازم خلقهم ، ضروري فيهم ، وأن قدر أن الإقرار بالرب تعالى يحصل بسبب يعرض للإنسان في حياته فهو في الحقيقة إنما يظهر بذلك ويبرز ، وهذا والله أعلم هو الإقرار والشهادة المذكورة في قوله تعالى : ﴿وَإِذْ أَخَذَ رَبُّكَ مِن بَنِي آدَمَ مِن ظُهُورِهِمْ ذُرِّيَّتَهُمْ وَأَشْهَدَهُمْ عَلَى أَنفُسِهِمْ أَلَسْتُ بِرَبِّكُمْ قَالُواْ بَلَى شَهِدْنَا أَن تَقُولُواْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ إِنَّا كُنَّا عَنْ هَذَا غَافِلِينَ فاصل الآيات أَوْ تَقُولُواْ إِنَّمَا أَشْرَكَ آبَاؤُنَا مِن قَبْلُ وَكُنَّا ذُرِّيَّةً مِّن بَعْدِهِمْ أَفَتُهْلِكُنَا بِمَا فَعَلَ الْمُبْطِلُونَ فاصل الآيات﴾ [ الأعراف : 172 ، 173 ] . وشهادة المرء على نفسه في القرآن يراد بها إقراره ، فمن أقر بحق عليه فقد شهد به على نفسه كما قال تعالى : مَ﴿ا كَانَ لِلْمُشْرِكِينَ أَن يَعْمُرُواْ مَسَاجِدَ الله شَاهِدِينَ عَلَى أَنفُسِهِمْ بِالْكُفْرِ أُوْلَئِكَ حَبِطَتْ أَعْمَالُهُمْ وَفِي النَّارِ هُمْ خَالِدُونَ﴾ [التوبة : 17] . لأنهم كانوا مقرين بما هو كفر ، فصار ذلك شهادة منهم على أنفسهم وقال تعالى : ﴿يَا مَعْشَرَ الْجِنِّ وَالإِنسِ أَلَمْ يَأْتِكُمْ رُسُلٌ مِّنكُمْ يَقُصُّونَ عَلَيْكُمْ آيَاتِي وَيُنذِرُونَكُمْ لِقَاء يَوْمِكُمْ هَـذَا قَالُواْ شَهِدْنَا عَلَى أَنفُسِنَا وَغَرَّتْهُمُ الْحَيَاةُ الدُّنْيَا وَشَهِدُواْ عَلَى أَنفُسِهِمْ أَنَّهُمْ كَانُواْ كَافِرِينَ﴾ [الأنعام : 130] . فشهادتهم على أنفسهم هو إقرارهم على أنفسهم .
وقولهم : ﴿ بَلَى شَهِدْنَا ﴾ أي أنهم أقروا بأن الله ربهم ، ومن أخبر بأمر عن نفسه فقد شهد به على نفسه . وقوله : ﴿وَأَشْهَدَهُمْ ﴾ يدل على أنه هو الذي جعلهم شاهدين على أنفسهم بأنه ربهم ، وهذا الإشهاد مقرون بأخذهم من أرحام الأمهات فالمعنى : اذكر حين أخذوا من أصلاب الآباء ونزوله في أرحام الأمهات فالمعنى : اذكر حين أخذوا من أصلاب الآباء فخلقوا حين ولدوا على الفطرة مقرين بالخالق شاهدين على أنفسهم بأن الله ربهم ، فالأخذ يتضمن خلقهم ، والإشهاد يتضمن هداه الإقرار بأنه ربهم .
ولهذا صار الإقرار بوجود الله تعالى مما لا يحتاج إلى برهان ، فإن الفطر الإنسانية تشهد بضرورة فطرتها ، وبديهة فكرتها على خالق حكيم ، قادر عليم ﴿أَفِي اللّهِ شَكٌّ فَاطِرِ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ﴾ . ﴿وَلَئِن سَأَلْتَهُم مَّنْ خَلَقَهُمْ لَيَقُولُنَّ اللَّهُ﴾ [الزخرف : 87] .
ومن غفل عن هذه الفطرة في حال فإنه يلوذ بها في حال الضراء ﴿وَإِذَا مَسَّكُمُ الْضُّرُّ فِي الْبَحْرِ ضَلَّ مَن تَدْعُونَ إِلاَّ إِيَّاهُ﴾ [الإسراء : 67 ] . ولهذا لم يأت الأمر التكليفى بوجوب معرفة وجود الله تعالى خلاًفا لما يقول أهل الكلام ومن سلك طريقهم ، وإنما جاء الأمر بوجوب عبادته وتوحيده ونفى الشرك كما قال صلى الله عليه وسلم : «أمرت أن أقاتل الناس حتى يقولوا لا إله إلا الله» . وقال تعالى : ﴿فَاعْلَمْ أَنَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ وَاسْتَغْفِرْ لِذَنبِكَ﴾ [محمد : 19] . وهذا هو محل النزاع بين الرسل وأممهم كما قال تعالى : ﴿وَلَقَدْ بَعَثْنَا فِي كُلِّ أُمَّةٍ رَّسُولاً أَنِ اعْبُدُواْ اللّهَ وَاجْتَنِبُواْ الطَّاغُوتَ فَمِنْهُم مَّنْ هَدَى اللّهُ وَمِنْهُم مَّنْ حَقَّتْ عَلَيْهِ الضَّلالَةُ فَسِيرُواْ فِي الأَرْضِ فَانظُرُواْ كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الْمُكَذِّبِينَ﴾ [النحل : 36] .
وهذا هو التوحيد الواجب على كل الخلق ، وهو مبنى على أن الله واحد في إلهيته لا ندّ له ، وواحد في ذاته وصفاته وأسمائه لا نظير له ، وواحد في ملكه وأفعاله لا شريك معه ، فلابد أن يعبد الله وحده لا يشرك معه غيره ، والشرك في العبادة هو أن يجعل معه إله آخر يتوجه إليه بنوع من أنواع العبادة ، وهذه أقسام التوحيد الثلاثة ، توحيد العبادة ، وتوحيد الربوبية ، وتوحيد الأسماء والصفات وهذا هو الدين الذي جاءت به الرسل من عند الله وحده ، وعبادته بأسمائه وصفاته ، وفعل أمره ، واجتناب نهيه .
ثمرة التوحيد :
والتوحيد الخالص هو الذي يرفع نفوس معتقديه ويخلصها من رق الأغيار ويفك إرادتهم من أسر الرؤساء الروحانيين كما يسمون ،وشيوخ الطرق الباطلة والدجل ، والضلال والتعلقات بالأحياء والأموات ، ويخلصها كذلك من إله المادة والتعليق بالطواغيت الماديين وكل بالأحياء والأموات ، فيكون المؤمن مع الناس حرًّا عزيزًا كريمًا ، ومع الله عبدًا خاضعًا ذليلاً خائفاً ، فهذا الذي يجب على العبد أن يعتني به أشد الاعتناء ، ويحذر أشد الحذر أن ينحرف عنه ، لأن الانحراف عنه هو الهلاك المحتم والخسران الأكبر والخلود في جهنم ، مع أن أقسام التوحيد الثلاثة متلازمة ولكن توحيد الربوبية أمر فطرى خلقي : (والرب هو المربى الخالق الرازق الناصر الهادي) [6].
(فالرب هو الذي يربى عبده فيعطيه خلقه الذي تتم حياته به ، ثم يهديه إلى جميع مصالحه) [7]. فتوحيد الربوبية هو العلم بأن الله تعالى هو مالك الأشياء كلها ، ومصرفها على ما يريد فالأمر كله راجع إليه تعالى ، من خلق السماوات وما فيهن ، وتصريف شأنها ، وخلق الأرض ومن عليها ، وما فيها من معادن ، وأسرار ، وخلق الرياح وتصريفها ، والسحب وتسخيرها تحمل الماء إلى ما شاء الله تعالى من الأماكن ، فينزله ، وبه نحيا الأرض الميتة ، وإيجاد الأرزاق للحيوانات والدواب والأناسي ، والإحياء والإماتة ، وتنظيم أمور الكون كله من بداية وجوده إلى نهايته ، وإلى ما شاء الله تعالى ، فالجميع ملك لله تعالى وتحت قهره وتصرفه ، حسب إرادته جل وعلا ، وهذا يقر به كل المكلفين من مؤمن وكافر إلا من عاند و كابر منهم ، والمعاند لا تجدي فيه الأدلة ، ولا تزيده المجادلة إلا تماديا في ضلاله ، وإنما خلق له الحديد الذي فيه البأس الشديد ، قال الله : ﴿فَإِنَّهُمْ لاَ يُكَذِّبُونَكَ وَلَكِنَّ الظَّالِمِينَ بِآيَاتِ اللّهِ يَجْحَدُونَ﴾ [الأنعام : 33]
فبين الله تعالى أن الكفار يعلمون أن ما جاء به الرسول صلى الله عليه وسلم حق ، وقال تعالى : ﴿إِنَّكَ لَا تُسْمِعُ الْمَوْتَى وَلَا تُسْمِعُ الصُّمَّ الدُّعَاء إِذَا وَلَّوْا مُدْبِرِينَ فاصل الآيات وَمَا أَنتَ بِهَادِي الْعُمْيِ عَن ضَلَالَتِهِمْ إِن تُسْمِعُ إِلَّا مَن يُؤْمِنُ بِآيَاتِنَا فَهُم مُّسْلِمُونَ فاصل الآيات﴾ [ النمل : 80 ، 81 ] . وأشهر من عرف الماضى في تجاهله وإنكاره لله تعالى هو فرعون ، وكان مستيقنًا في قلبه وجود الله تعالى ، وأنه مالك كل شيء كما قال تعالى عن موسى أنه قال له : ﴿ قَالَ لَقَدْ عَلِمْتَ مَا أَنزَلَ هَـؤُلاء إِلاَّ رَبُّ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ بَصَآئِرَ ﴾ . [الإسراء : 102] . وقال تعالى مخبرا عنه وعن قومه : ﴿وَجَحَدُوا بِهَا وَاسْتَيْقَنَتْهَا أَنفُسُهُمْ ظُلْماً وَعُلُوّاً﴾ [النمل : 14] . ولهذا قال منكراً على موسى : ﴿وَمَا رَبُّ الْعَالَمِينَ ﴾. [الشعراء : 23] . فقال له موسى : ﴿رَبُّ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَمَا بَيْنَهُمَا إن كُنتُم مُّوقِنِينَ فاصل الآيات قَالَ لِمَنْ حَوْلَهُ أَلَا تَسْتَمِعُونَ فاصل الآيات قَالَ رَبُّكُمْ وَرَبُّ آبَائِكُمُ الْأَوَّلِينَ فاصل الآيات قَالَ إِنَّ رَسُولَكُمُ الَّذِي أُرْسِلَ إِلَيْكُمْ لَمَجْنُونٌ فاصل الآيات قَالَ رَبُّ الْمَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ وَمَا بَيْنَهُمَا إِن كُنتُمْ تَعْقِلُونَ فاصل الآيات﴾ [ الشعراء : 24- 28] وما زعمه بعضهم أن قول فرعون : ﴿وَمَا رَبُّ الْعَالَمِينَ ﴾. استفهام استعلام ، وسؤال عن الماهية ، وأن موسى عجز عن الجواب ، لأن الله تعالى لا ماهية له . هو زعم باطل بل الاستفهام للإٍنكار كما دلت عليه الآيات الأخر : ﴿وَجَحَدُوا بِهَا وَاسْتَيْقَنَتْهَا أَنفُسُهُمْ ظُلْماً وَعُلُوّاً﴾ وقوله : ﴿لَقَدْ عَلِمْتَ مَا أَنزَلَ هَـؤُلاء إِلاَّ رَبُّ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ بَصَآئِر﴾ .
وكل من أنكر وجود الله تعالى فلا يخلو من العناد والكبر .
أما غير المعاند فإنه يعترف بأن الله لا منازع له في الملك والإيجاد والقهر والتدبير ولا مشارك له فيه ولا معين ، كما قال تعالى : ﴿قُلِ ادْعُوا الَّذِينَ زَعَمْتُم مِّن دُونِ اللَّهِ لَا يَمْلِكُونَ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ فِي السَّمَاوَاتِ وَلَا فِي الْأَرْضِ وَمَا لَهُمْ فِيهِمَا مِن شِرْكٍ وَمَا لَهُ مِنْهُم مِّن ظَهِيرٍ فاصل الآيات وَلَا تَنفَعُ الشَّفَاعَةُ عِندَهُ إِلَّا لِمَنْ أَذِنَ لَهُ﴾ [ سبأ : 22 ، 23] .
والله عز وجل فطر جميع خلقه على معرفة هذا النوع من التوحيد ، فلذلك يلجأون إليه عند النوائب ويفزعون إلى الله كلما ألجأتهم الأزمات ، وألمت بهم الكربات ، وأصابتهم النكبات ، فيخلصون له العبادة عند ذلك ، كما لجأ إليه كبراء الملاحدة وقت الشدة مثل فرعون وذويه ، فقد أخبر الله تعالى أنهم أنكروا وجود الله تعالى ، وقت المجادلة لموسى عليه العافية ، فلما أدركهم الغرق ، ذهب عنادهم ، واعترفوا بالحق الذي كانوا ينكرونه عنادا ، قال الله تعالى : ﴿وَجَاوَزْنَا بِبَنِي إِسْرَائِيلَ الْبَحْرَ فَأَتْبَعَهُمْ فِرْعَوْنُ وَجُنُودُهُ بَغْياً وَعَدْواً حَتَّى إِذَا أَدْرَكَهُ الْغَرَقُ قَالَ آمَنتُ أَنَّهُ لا إِلِـهَ إِلاَّ الَّذِي آمَنَتْ بِهِ بَنُو إِسْرَائِيلَ﴾ [يونس : 90] .
وقال تعالى : ﴿قُلْ أَرَأَيْتُكُم إِنْ أَتَاكُمْ عَذَابُ اللّهِ أَوْ أَتَتْكُمُ السَّاعَةُ أَغَيْرَ اللّهِ تَدْعُونَ إِن كُنتُمْ صَادِقِينَ فاصل الآيات بَلْ إِيَّاهُ تَدْعُونَ فَيَكْشِفُ مَا تَدْعُونَ إِلَيْهِ إِنْ شَاء وَتَنسَوْنَ مَا تُشْرِكُونَ فاصل الآيات﴾ [الأنعام : 40 ، 41 ] . وهذا صريح في أنهم يعلمون أن الله هو المالك لكل شيء المتصرف فيه بما شاء ، ولهذا صار الإقرار بهذا النوع من التوحيد لا ينفع ولا ينجى من العذاب حتى ينضاف إليه توحيد القصد والنية والإرادة والتوجه ، والمقر بتوحيد التصرف والملك لا يصير به مسلماً كما دلت على ذلك آيات كثيرة من كتاب الله تعالى ، قال تعالى : ﴿وَلَئِن سَأَلْتَهُم مَّنْ خَلَقَهُمْ لَيَقُولُنَّ اللَّهُ﴾ [الزخرف : 87] . وقال تعالى : ﴿قُلْ مَن يَرْزُقُكُم مِّنَ السَّمَاءِ وَالأَرْضِ أَمَّن يَمْلِكُ السَّمْعَ والأَبْصَارَ وَمَن يُخْرِجُ الْحَيَّ مِنَ الْمَيِّتِ وَيُخْرِجُ الْمَيَّتَ مِنَ الْحَيِّ وَمَن يُدَبِّرُ الأَمْرَ فَسَيَقُولُونَ اللّهُ فَقُلْ أَفَلاَ تَتَّقُونَ﴾ [يونس : 31] . وقال تعالى : ﴿وَلَئِن سَأَلْتَهُم مَّن نَّزَّلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَأَحْيَا بِهِ الْأَرْضَ مِن بَعْدِ مَوْتِهَا لَيَقُولُنَّ اللَّهُ﴾ [العنكبوت : 63] . وآيات القرآن في هذا كثيرة ، وهي تدل على أن الكفار يؤمنون بهذا القسم من التوحيد ولم يجعلهم ذلك مسلمين ، بل فوق هذا كانوا يخلصون الدعاء لله – الذي هو توحيد العبادة – في حالة الاضطرار ، ثم يعودون إلى شركهم في الرخاء ، كما قال الله تعالى عنهم : ﴿فَإِذَا رَكِبُوا فِي الْفُلْكِ دَعَوُا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ فَلَمَّا نَجَّاهُمْ إِلَى الْبَرِّ إِذَا هُمْ يُشْرِكُونَ﴾ [العنكبوت : 65] ، ومعنى قوله تعالى ﴿دَعَوُا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ﴾ أنهم توجهوا إلى الله وحده بالعبادة ، من الدعاء ، والذل ، والخضوع ، والرغبة والخوف ، والالتجاء ، لعلمهم أن شركاءهم لا يملكون لهم نفعا ، ولا يستطيعون دفعا عنهم ، وإنما الأمر كله بيد الله تعالى وحده . والذي صيرهم مشركين وأوجب خلودهم في النار هو زعمهم أن أصنامهم ومن يتوجهون إليهم يشفعون لهم عند الله كما قال الله تعالى : ﴿وَيَعْبُدُونَ مِن دُونِ اللّهِ مَا لاَ يَضُرُّهُمْ وَلاَ يَنفَعُهُمْ وَيَقُولُونَ هَـؤُلاء شُفَعَاؤُنَا عِندَ اللّهِ قُلْ أَتُنَبِّئُونَ اللّهَ بِمَا لاَ يَعْلَمُ فِي السَّمَاوَاتِ وَلاَ فِي الأَرْضِ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى عَمَّا يُشْرِكُونَ﴾ [يونس : 18] . والمعنى أن الله لا يعلم أحدا يشفع عند لهؤلاء لا من أهل السماء ولا من أهل الأرض ، لأن الشفاعة لله وحده ولا أحد يستطيع أن يشفع عنده حتى يأمره بذلك ويأذن له فيمن يشفع فيه ، وإذا كان الله تعالى لا يعلم شافعا لهم لا في السماوات ولا في الأرض فالشافع لا وجود له .
روى الحاكم والدارقطني وابن مردويه : «أن النبي صلى الله عليه وسلم لما فتح مكة فر عكرمة بن أبى جهل فركب البحر ، فأصابهم عاصف ، فقال أصحاب السفينة : اخلصوا فإن آلهتكم لا تغنى عنكم هاهنا شيئاً ، فقال عكرمة : والله لئن لم ينجى في البحر إلا الإخلاص ، لا ينجيني في البر غيره اللهم إن لك على عهداً إن عافيتني مما أنا فيه أن آتى محمد حتى أضع يدي في يده فلا أجدنه إلا عفوا كريمًا . قال : فنجي فأسلم» [8].
قال قتادة : (الخلق كلهم يقرون لله أنه ربهم ، ثم يشركون بعد ذلك) [9].
شرك أهل هذا الزمان أعظم من شرك الجاهلية الأولى
المشركون اليوم أعظم شركا ممن بعث فيهم رسول الله صلى الله عليه وسلم . وبهذا يتبين سفاهة عقول مشركي هذا الزمان ، وعظم شركهم ، وأنه لم يصل إليه شرك السابقين . فمشركوا وقتنا هذا يخلصون الدعاء وتزداد إنابتهم ، ويتضاعف ذلهم وخضوعهم لمن يعبدونه من دون الله تعالى ممن يدعون لهم بالولاية ، عندما يقعون في الشدائد ، والكربات ، ويشركونهم مع الله تعالى حتى في الربوبية ، ويجعلون لهم التصرف والهداية وجلب النفع ، ودفع الضر بخلاف مشركي العرب زمن الرسول صلى الله عليه وسلم فما كان أحد منهم يدعى ذلك لآلهته وإنما كانوا يقولون : إنها تشفع لهم عند الله ، وتقربهم إليه تعالى ، كما قال تعالى عنهم : ﴿وَالَّذِينَ اتَّخَذُوا مِن دُونِهِ أَوْلِيَاء مَا نَعْبُدُهُمْ إِلَّا لِيُقَرِّبُونَا إِلَى اللَّهِ زُلْفَى﴾ [الزمر : 3] ومع ذلك لم يكن شركهم مستمرا في كل وقت كهؤلاء المشركين الذين يزعمون أنهم مسلمون ، بل في وقت الشدائد يخلصون العبادة لله تعالى كما سبق بعض الأدلة على ذلك .
ومن سفاهة هؤلاء أنهم جعلوا الشرك الذي هو أعظم الذنوب أفضل أعمالهم ، ورموا من أنكر عليهم ذلك بالجفاء ، وتنقص الأنبياء والأولياء ، وبأنهم خوارج يكفرون المسلمين . وذلك لأنهم جهلوا معنى الإله ، فظنوا أن معنى الإله الرب الخالق المحيى المميت ، القادر على كل شيء ، وظنوا أن الدعاء والاستغاثة ليست عبادة ، وسموا ذلك توسلا وتعلقا ، لأن القرآن صرح أن عبادة غير الله كفر ، واستبعدوا أن تكون هذه الأعمال التي أدركوا عليها آباءهم وقومهم شركا من أعمال المشركين ، فسموا العبادة غير اسمها لجهلهم دين الإسلام ولغته .
وجهلوا الشرك ، فظنوا أنه السجود للصنم ، والصلاة له ، واعتقاد أنه تدبير الأمور مع الله والتصرف في الكون ، واعتقدوا أن المشركين السابقين يعتقدون في آلهتهم هذا المعنى ، فحملوا آيات القرآن في الشرك على هذا المعنى .
قال صاحب فرقان القرآن في (ص 111) في تعريفه العبادة : (الإتيان بأقصى غاية المخضوع له أو قالبًا مع ذلك الاعتقاد، فإن انتفى ذلك الاعتقاد لم يكن ما أتى به من الخضوع الظاهري من العبادة شرعا في كثير ولا قليل ، مهما كان المأتى به ولو سجودا) .
وقال في ( ص 87 ) : (توحيد الربوبية وتوحيد الألوهية متلازمان عرفًا وشرعًا ، فالقول بأحدهما قول بالآخر ، والإشراك في أحدهما إشراك في الآخر ، فمن اعتقد أنه لا رب ولا خالق إلا الله لم ير مستحقا للعبادة إلا هو ومن اعتقد أنه لا يستحق العبادة غيره فذلك بناء منه على أنه لا رب إلا هو ، ومن أشرك مع الله غيره في العبادة إلا هو ومن اعتقد أنه لا يستحق العبادة غيره فذلك بناء منه على أنه لا رب إلا هو ، ومن أشرك مع الله غيره في العبادة كان لا محالة قائلا بربوبية هذا الغير هذا مالا يعرف الناس سواه) .
ونقل محمود حسن عن هذا الرجل أنه قال في مؤلَّف له آخر : (إن من ود الرب تعالى إنزال الغوث والرحمة على من يذكر أحباءه ويناديهم ويستغيث بهم ولو كانوا غائبين أو متوفين) . (ص65) ، كشف الشبهات .
وقال محمود حسن ربيع في كتابه كشف الشبهات أيضا : (إن استعانتك بالأولياء الذين تعتقد أن لهم حياة وتصرفا بأقدار الله ، ليس شركا ، وإن الشرك لو اعتقدت فيهم ربوبية) (ص57) . وقال في (ص 58) : (( فمن اتخذ من الأنبياء والأولياء وسيلة إلى الله لجلب نفع أو دفع ضر من الله فهو سائل الله )) ... (( ومن قال يا رسول الله أريد أن ترد على عينى ، أو ترفع عنا الجدب ، أو يزول عنا المرض ، وهو من المؤمنين كان ذلك دليلاً على أنه يطلب من الله )) .
فهذه التعريفات للعبادة والشرك أخذت من الواقع الذي عاش فيه هؤلاء وأحزابهم لا من الشرع الذي جاء به الرسول صلى الله عليه وسلم فأراد هؤلاء أن يكون الواقع الذي هم عليه متفقاً مع دين الإسلام ، فجمعوا بين المتضادات ، وواجب المكلف....................للشيخ الله الغنيمان رحمها الحقائق . فجعلوا الشرك توحيداً ، والتوحيد ضلالاً ، وسلوكاً لطريق الخوارج الذين يكفرون المسلمين ، واستبعدوا أن تكون هذه الأوضاع المنتشرة في سائر أنحاء البلاد الإسلامية هي التي كان يفعلها المشركون السابقون مع معبوداتهم ، لذلك حاولوا تبرير أفعالهم وجعلها على نهج الإسلام بأحاديث ملفقة أو موضوعة مكذوبة أو حكايات لا قيمة لها في الشرع الإسلامي، وأقل ما يقال في تلك الأحاديث أنها ضعيفة لا يجوز أن يعتمد عليها في فرع من فروع الشرع ، فكيف في أصل الأصول – العبادة – التي خلق الجن والإنس من أجلها ، وأرسلت الرسل وأنزلت الكتب لإقامتها وإخلاصها لله .
إن دعاة الوثنية لا يفتؤون يؤلفون الكتب ، ويزوقون الكلام بتحسين الشرك والثناء على أهله ، وتقبيح التوحيد ، وعيب أهله ودعاته ، ورميهم بالعظائم إتباعاً لأهوائهم ، وأغراضهم الدنيوية ، فهم يجهدون في تحريف أدلة الكتاب والسنة حتى تتفق مع ما يقولونه أو يفعلونه ، أو يفعله معظمهم من الرعاع أتباع كل ناعق ، ولهذا قال هؤلاء : (( العبادة هي الإتيان بأقصى غاية الخضوع قلبا وقالبا باعتقاد ربوبية المخضوع له ، فإن انتفى ذلك الاعتقاد – يعنى اعتقاد الربوبية – لم يكن المأتى به من العبادة في العبادة في كثير ولا قليل ولو كان سجوداً )) .
فهل يصدق العاقل أن المشركين – في عهد النبوة – الذين نزل فيهم القرآن – وهم أكمل عقولا من هؤلاء – يعتقدون أن الأحجار هي ربهم الذي يحيهم ويميتهم ، وينزل عليهم المطر وينبت الزرع والكلاء ، وما يقتاتونه هم وأنعامهم . قال الله تعالى : ﴿يَا أَيُّهَا النَّاسُ اعْبُدُواْ رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ وَالَّذِينَ مِن قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ فاصل الآيات الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الأَرْضَ فِرَاشاً وَالسَّمَاء بِنَاء وَأَنزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَأَخْرَجَ بِهِ مِنَ الثَّمَرَاتِ رِزْقاً لَّكُمْ فَلاَ تَجْعَلُواْ لِلّهِ أَندَاداً وَأَنتُمْ تَعْلَمُونَ فاصل الآيات﴾ [البقرة :21- 22] . أي تعلمون أن الله تعالى هو الفاعل لما ذكر في الآية من خلقهم وخلق من قبلهم ، وخلق الأرض وجعلها فراشا لهم يفترشونها وينتفعون بها بما شاءوا وخلق السماء وبناها وأنزل من السماء ماء فأنبت به الثمرات والأرزاق لكم ولأنعامكم فكيف تعبدون معه غيره مع علمكم أنه لا مشارك له في الخلق والرزق والإحياء والإماتة ، وتصريف أمور الكون .
(( وحال مشركي العرب مع أوثانهم معلومة ، وأنهم إنما كانوا يعتقدون حصول البركة منها بتعظيمها ودعائها ، والاستغاثة بها ، والاعتماد عليها في حصول ما يرجونه منها ويؤملونه ببركتها وشفاعتها ، فالتبرك بالصالحين وبقبورهم هو عين فعل المشركين باللات والعزى ، ومناة وسائر أوثانهم )) [10].
وهو العبادة التي أوجبت لهم الخلود في النار ، وحرمت عليهم الجنة ، وأخبر الله تعالى أنه لا يغفر ذلك إلا بالتوبة منه وفعل التوحيد الذي هو ضده .
وتسمية هذه الأفعال تبركا ، أو توسلا أو غير ذلك لا يغير من الحقائق شيئا ، فالشرك هو الاتجاه بالعبادة إلى غير الله مهما سمى ذلك ، ( وهو نوعان : شرك في الربوبية وشرك في الإلهية ) .
فالأول : إثبات فاعل مستقل غير الله تعالى كمن يجعل الإنسان مستقلاً بأحداث فعله مهما كانت مرتبته نبيا فما دونه ، وكذا من يجعل الكواكب أو الأجسام الطبيعية ، أو العقول كما تقوله الفلاسفة ، أو النفوس كما يقوله عباد القبور ، أو الملائكة أو غير ذلك من المخلوقات ، من جعل شيئاً من ذلك مستقلاً بشيء من الأحداث فهو مشرك في الربوبية .
(( وكل ما سوى الخالق الواجب الوجود بنفسه مفتقر إلى غيره ، فلا يتم به حدوث حادث ، ولا وجود ممكن ، وجمهور العرب لم يكن شركها من هذا النوع ، بل كانت مقرة بأن الله خالق كل شيء وربه ومليكه ، وإنما كان من الشرك في العبادة )) .
والنوع الثاني من الشرك : الشرك في الإلهية ، وهو أن يجعل مع الله أحداً من خلقه يتوجه إليه في عبادته أو محبته أو خوفه أو رجائه ، أو إنابته أو أي نوع من أنواع العبادة ، وضد هذا الشرك التوحيد في الإلهية ، وهو عبادة الله تعالى وحده لا شريك له ، فإن المشركين المقرين بأن الله رب كل شيء كانوا يتخذون آلهة يستجلبون بعبادتها المنافع ، ويستدفعون بها المضار ، ويتخذونها وسائل تقربهم إلى الله زلفى ، وشفعاء يستشفعون بها إليه ، وهذه الآلهة خلق من خلقه لا يملكون لأحد نفعاً ولا ضراً إلا بإذنه ، فكل ما يطلب منهم لا يحصل منه شيء إلا بإذن الله تعالى ، وهو عز وجل لم يأمر بعبادة غيره ، ولم يجعل هؤلاء شفعاء ووسائل تقرب إليه ، قال تعالى : ﴿وَاسْأَلْ مَنْ أَرْسَلْنَا مِن قَبْلِكَ مِن رُّسُلِنَا أَجَعَلْنَا مِن دُونِ الرَّحْمَنِ آلِهَةً يُعْبَدُونَ﴾ [الزخرف : 45] . وقال تعالى : ﴿وَمَا أَرْسَلْنَا مِن قَبْلِكَ مِن رَّسُولٍ إِلَّا نُوحِي إِلَيْهِ أَنَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا أَنَا فَاعْبُدُونِ﴾ [الأنبياء : 25] . وقال تعالى : ﴿وَيَعْبُدُونَ مِن دُونِ اللّهِ مَا لاَ يَضُرُّهُمْ وَلاَ يَنفَعُهُمْ وَيَقُولُونَ هَـؤُلاء شُفَعَاؤُنَا عِندَ اللّهِ قُلْ أَتُنَبِّئُونَ اللّهَ بِمَا لاَ يَعْلَمُ فِي السَّمَاوَاتِ وَلاَ فِي الأَرْضِ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى عَمَّا يُشْرِكُونَ﴾ [يونس : 18] . ( والمعنى أن الله تعالى لا يعلم أن أحدا يشفع عنده لهؤلاء لا في السماوات ولا في الأرض فلا وجود لذلك ) .
فبين الله تعالى في هذه الآيات وغيرها أنه لم يشرع عبادة غيره ، ولا أذن في ذلك ، بل أخير أنه لو كان في السماوات أو الأرض آلهة إلا الله لفسدتا ، فإنه كما يمتنع أن يكون غيره ربا فاعلاً متصرفا ، يمتنع أن يكون إلها معبودا ) [11].
(( والإنسان بل وجميع الكائنات عباد لله تعالى ، فقراء إليه مماليك له ، وهو ربهم المتصرف فيهم ، وهو إلههم لا إله إلا هو ، فالمخلوق ليس له من نفسه شيء أصلاً ، بل نفسه وصفاته وأفعاله ، وما ينتفع به أو يستحقه إنما هو من خلق الله تعالى . هو الذي أوجده ومن به ،وفقر المخلوق وعبوديته أمر لازم له ، لا ينفك عنه بحال ، ولا وجود له بدون ربه الحاجة إليه ضرورية لكل المخلوقات لأنها ملك لخالقها وموجدها إذ لا قيام لها بدونه ، ولكن الناس أو أكثرهم تعزب قلوبهم عن شهود هذه الحاجة الملحة وهذا الفقر الاضطراري ))[12] . وتشهد توحيد الربوبية العام ، الذي تشترك في شهوده سائر المخلوقات ، وهو أنه لا خالق إلا الله كان وما لم يشأ لم يكن ، فكل ما سواه إذا كان سبباً فلابد له من شريك معاون ، وضد معوق ، فإذا طلب العبد من غير إحداث أمر من الأمور، فقد طلب منه مالا يستقل به ، ولا يقدر عليه وحده ، حتى أفعال العبد الاختيارية لا يستطيع فعلها إلا بإعانة الله عليها بأن يجعله فاعلاً بما يخلقه فيه من الإرادة الجازمة ، والقدرة على ذلك الفعل .
فمشيئة الله وحده هى المستلزمة لكل ما يريد فما شاء كان ، وما لم يشأ لم يكن وما سواه لا تستلزم إرادته شيئاً ، بل ما أراده لا يكون إلا بأمور خارجة عن مقدوره ، إن لم يعنه الرب بها لم يحصل مراده ، ونفس إرادته لا تحصل إلا بمشيئة الله تعالى كما قال تعالى : ﴿وَمَا تَشَاؤُونَ إِلَّا أَن يَشَاءَ اللَّهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ﴾ . [التكوير : 29] .
وبهذا يتبين أن السائل للمخلوق يسأله مالا يستقل بملكه ، هذا إذا كان المسؤول بمقدوره ظاهراً ، فكيف إذا سأله مالا يقدر عليه أصلا مثل الشفاعة عند الله لأنها لا تكون إلا بإذنه ، ومثل هداية القلوب ، وشفاء الأمراض ونحو ذلك .
والراجى لمخلوق ، طالب بقلبه لما يريده من ذلك المخلوق ، والمطلوب منه عاجز عن المطلوب ، ولهذا صار ذلك من الشرك الذي لا يغفره الله إلا بالتوبة منه .
ومن نعم الله على عبده أن يمنع مطلوبه بالشرك ، ليصرف قلبه إلى توحيد الله تعالى فإن وحَدّه الإلهية حصلت له سعادة الدنيا والآخرة ، وإن كان ممن قال الله فيهم : ﴿وَإِذَا مَسَّ الإِنسَانَ الضُّرُّ دَعَانَا لِجَنبِهِ أَوْ قَاعِداً أَوْ قَآئِماً فَلَمَّا كَشَفْنَا عَنْهُ ضُرَّهُ مَرَّ كَأَن لَّمْ يَدْعُنَا إِلَى ضُرٍّ مَّسَّهُ﴾ [يونس : 12] . كان ما حصل له من توحيد حجة عليه ، كما احتج سبحانه على أمثاله من المشركين ، الذين يقرون بأنه خالق كل شيء ثم يشركون غيره معه في العبادة ، ولا يخلصونها له ، قال تعالى : ﴿قُل لِّمَنِ الْأَرْضُ وَمَن فِيهَا إِن كُنتُمْ تَعْلَمُونَ فاصل الآيات سَيَقُولُونَ لِلَّهِ قُلْ أَفَلَا تَذَكَّرُونَ فاصل الآيات قُلْ مَن رَّبُّ السَّمَاوَاتِ السَّبْعِ وَرَبُّ الْعَرْشِ الْعَظِيمِ فاصل الآيات سَيَقُولُونَ لِلَّهِ قُلْ أَفَلَا تَتَّقُونَ فاصل الآيات قُلْ مَن بِيَدِهِ مَلَكُوتُ كُلِّ شَيْءٍ وَهُوَ يُجِيرُ وَلَا يُجَارُ عَلَيْهِ إِن كُنتُمْ تَعْلَمُونَ فاصل الآيات سَيَقُولُونَ لِلَّهِ قُلْ فَأَنَّى تُسْحَرُونَ فاصل الآيات﴾ [13] . [ المؤمنون : 84-89] . وهذا كثير في القرآن ، وهو يدل على ما تقدم من أن الإقرار بتوحيد الربوبية ، وبوجود الله تعالى أمر فطرى مسلم به عند جميع الخلق ، إلا من أخذته العزة بالإثم فكابر عقله ، وخالف فطرته ، وعاند الحق ، ولهذا لم تكن رسالة الرسل في الناس إلى الإيمان بوجود الله تعالى ، والإقرار بربوبيته ، إذ كان هذا مستقراً في القلوب .
ولذلك جعل الله تعالى هذا دليلاً وحجة على وجوب التزام القسم الثاني من التوحيد ، الذي هو توحيد العبادة .
فالإقرار بالخالق ، وكماله يكون فطرياً ضرورياً في حق من سلمت فطرته من الانحراف ، ومع ذلك فقد قامت عليه الأدلة الكثيرة ، لأنه قد يحتاج إليها كثير من الناس لفساد فطرهم وتغيرها ولأحوال تعرض لهم ، وإن كانت مسألة الإقرار بوجود الله – كما قلنا – ليست من المسائل التي تحتاج إلى برهان ، (( فإن الفطر الإنسانية السليمة تشهد بضرورة فطرتها وبديهة فكرتها على خالق حكيم ، قادر عليم )) . ﴿أَفِي اللّهِ شَكٌّ ﴾ ﴿وَلَئِن سَأَلْتَهُم مَّنْ خَلَقَهُمْ لَيَقُولُنَّ اللَّهُ﴾ ومن غفل عن هذه الفطرة في حال السراء ، فإنه يلوذ بها في حال الضراء . ﴿وَإِذَا مَسَّكُمُ الْضُّرُّ فِي الْبَحْرِ ضَلَّ مَن تَدْعُونَ إِلاَّ إِيَّاهُ﴾ .
أنواع الأدلة الدالة على الله تعالى
فالأدلة على الله تعالى كثيرة : منها ما شهدت به الفطر السليمة من احتياج المخلوق إلى مدبر هو منتهى طلبه ، يرغب إليه ، ولا يرغب عنه ، ويستغنى به ، ولا يستغنى عنه ، ويفزع إليه في الشدائد ، واحتياج الإنسان في نفسه أوضح من احتياج الممكن الخارجي إلى موجد ، والحادث إلى محدث ، ولهذا ذكر الله تعالى هذا المعنى محتجًّا به على وجوب عبادته كما قال تعالى : ﴿أَمَّن يُجِيبُ الْمُضْطَرَّ إِذَا دَعَاهُ وَيَكْشِفُ السُّوءَ وَيَجْعَلُكُمْ خُلَفَاء الْأَرْضِ أَإِلَهٌ مَّعَ اللَّهِ قَلِيلاً مَّا تَذَكَّرُونَ﴾ [النمل : 62] . ومن رجع إلى نفسه أدنى رجوع عرف احتياجه إلى ربه في الآفاق ، والملكوت تدل دلالة واضحة على الله تعالى ، ولكن المعارف التي تحصل من تعريفات أحوال الاضطرار أشد رسوخاً في القلب من المعارف التي هي نتائج الأفكار في حالة الاختيار [14].
وكذلك النظر في مخلوقات الله تعالى ، وما فيها من العجائب ، وإتقان الصنعة ، وباهر الحكمة ، وتقلب الليل والنهار ، ودوران الشمس والقمر والنجوم ، وما يتجدد في طلوعها وغروبها ، ودوران الأفلاك ، وهبوب الرياح ، والسحاب المسخر بين السماء والأرض يحمل الماء إلى حيث يشاء الله ، وعوالم المخلوقات مما يطول وصفه .
ومن ذلك خلق الإنسان من نطفة مستوية الأجزاء ، متنقلة الأطوار ، وعظاما وعصبا ، وبصرا وعقلا وإدراكا ، وما يشم ، وما يطعم ، وما يمشى على بطنه وما يمشى على أربع وما بمشي على رجلين ، وذكر وأنثى ، وهل يمكن أن يكون أن المداد بنفسه كتاباً معرباً مرتب المعاني والمواضيع منسق الكتابة والحروف بطبيعة المداد من غير كاتب عالم . ﴿قُتِلَ الْإِنسَانُ مَا أَكْفَرَهُ﴾ .... الآيات .
ومن ذلك المعجزات التي جاءت بها الأنبياء وهى من أوضح الدلائل على الله تعالى مثل إحياء الموتى ، وجعل العصا التي هي عود يابس مقطوع من شجرة حية تلتهم ما أمامها ، وفلق البحر بضربه بالعصا ، وقلب طبيعة النار ومنعها من الإحراق ، وإنباع الماء من أصابع الرسول e حتى يتوضأ منه الجمع الكثير ، وتكثير الطعام القليل حتى يتزود منه الجيش بأكمله وغير ذلك كثير جدا .
ولما كان الطريق إلى الحق هو السمع والعقل ، وهما متلازمان ، كان من سلك الطريق العقلي دله على الطريق السمعي بين الأدلة العقلية ، كما بين ذلك القرآن .
وكان الشقي المعذب من لم يسلك لا هذا ولا هذا كما قال أهل النار : ﴿وَقَالُوا لَوْ كُنَّا نَسْمَعُ أَوْ نَعْقِلُ مَا كُنَّا فِي أَصْحَابِ السَّعِير﴾ [الملك : 10] . قال الله تعالى : ﴿أَفَلَمْ يَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَتَكُونَ لَهُمْ قُلُوبٌ يَعْقِلُونَ بِهَا أَوْ آذَانٌ يَسْمَعُونَ بِهَا فَإِنَّهَا لَا تَعْمَى الْأَبْصَارُ وَلَكِن تَعْمَى الْقُلُوبُ الَّتِي فِي الصُّدُورِ﴾ [الحج : 46] .
والإلحاد يعرض لكثير من الناس ، ويتبناه بعضهم إما ظاهراً دون باطن كحال فرعون ونحوه من المجرمين ، وإما باطناً وظاهراً كحال ملاحدة اليوم .
والإلحاد لا يمنع أن تكون معرفة الله مستقرة في الفطرة ، ثابتة بالضرورة ، لأن إنكار وجود الله تعالى حال تعرض لكثير من الناس عمداً أو خطأ واغترارا ، مع أن كثيراً من الناس قد ينازع في كثير من القضايا البديهية ، والمعارف الفطرية ، من الحسيات والحسابيات ، والإلهيات ، ومن تأمل ما يذكره أصحاب المقالات في العلوم المختلفة رأى عجائب وغرائب ، فمن الطرائف في هذا ما ذكر أن رجلاً صنف كتاباً في نفي العلوم فمات له ولد قد قارب الحلم فقال : أسفت لموت ولدى قبل أن يقرأ كتابي ، فقيل له : وم