ب ـ تحطيم الأصنام
كان إبراهيم عليه السلام ـ وهو أبو الأنبياء بعد نوح ـ ممن حارب الوثنية في قومه ، حتى حاول قومه إحراقه بالنار ، كما يحكي القرآن الكريم ، ولما جاء إلى مكة أودع ولده إسماعيل عليه السلام فيها مع أمه ، فلما شب إسماعيل عليه السلام بنيا الكعبة معاً لتكون بيتاً يعبد الله عنده ، ويحج الناس اليه ، وتكاثر ولد إسماعيل ـ وهم العرب المستعربة ، كما يسميهم المؤرخون ، واستمروا لا يعرفون عبادة الأوثان والأصنام ، ثم كان من عبادتهم أنه كان لا يظعن من مكة ظاعن ، إلا أحتمل معه حجراً من حجارة الحرم ، تعظيماً للحرم ، وصبابه بمكة ، فحيثما حلوا وضعوه وطافوا به كطوافهم بالكعبة ، تيمناً منهم بها ، وحباً منهم للحرم ، وشوقاً اليه ، واستمروا كذلك حتى أدخل فيهم " عمرو بن الحي " عبادة الأوثان ـ وكان ذلك قبل البعثة النبوية بخمسمائة سنة على ما يقولون ـ فهو أول من غير دين إسماعيل عليه السلام ، وكان من أمره أنه تولى حجابه البيت بعد إجلاء جرهم عن مكة وما حولها ، ثم مرض مرضاً شديداً ، فقيل له : إن بالبلقاء من الشام حمة ـ وهي التي يقال لها " الحمة " الآن ـ إن اتيتها برأت ، فاتاها فاستحم بها فبرأ ، ووجد أهلها يعبدون الاصنام فقال : ما هذه ؟ فقالوا : نستسقي بها المطر ، ونستنصر بها على العدو ، فسألهم أن يعطوه منها ، ففعلوا ، فقدم بها مكة ، ونصبها حول الكعبة ، وانتشرت بعد ذلك عبادة الأصنام في جزيرة العرب ، حتى كان لأهل كل دار في مكة صنم يعبدونه في دارهم ، فاذا أراد أحدهم السفر ، كان آخر ما يصنع في منزله أن يتمسح به ، وإذا قدم من سفره ، كان أول ما يصنع إذا دخل منزله أن يتمسح به أيضاً .
ثم أولعت العرب بعبادة الأصنام ، فمنهم من اتخذ بيتاً ، ومنهم من أتخذ صنماً ، ومن لم يقدر عليه ولا على بناء بيت ، نصب حجراً أمام الحرم ، وأمام غيره مما استحسن ، ثم طاف به كطوافه بالبيت ، وكان الرجل إذا سافر فنزل منزلاً ، أخذ أربعة أحجار فنظر إلى أحسنها فاتخذه رباً ، وإذا ارتحل تركه ، فاذا نزل منزلاً آخر فعل مثل ذلك .
وكان للعرب ثلاثة أصنام كبرى تعظمها ، وتحج اليها، وتنحر لها الذبائح :
أقدمها " مناة " وكان منصوباً على ساحل البحر من ناحية المشلل بقديد ، بين المدينة ومكة ، وكان العرب جميعاً تعظمه ، وأشدهم إعظاماً له الأوس والخزرج ، فلما خرج رسول الله صلى الله عليه وسلم لفتح مكة في السنة الثامنة للهجرة ، أرسل إليه علياً ، فهدمه ، وأخذ ما كان له ، وأقبل به إلى النبي صلى الله عليه وسلم ، فكان فيما أخذ : سيفان ، كان الحارث بن ابي شمر الغساني ملك غسان أهداهما له ، والحارث هذا هو الذي قتل شجاع بن وهب الأسدي رضي الله عنه حين سلمه كتاب النبي صلى الله عليه وسلم غيره .
وثانيها " اللات " وكانت بالطائف ، وهي صخرة مربعة ، وكانت قريش وجميع العرب تعظمها ، فلما جاء وفد ثقيف بعد عودة النبي صلى الله عليه وسلم من فتح مكة إلى المدينة ، طلب وفدها منه عليه الصلاة والسلام أن يدع لها اللات ثلاث سنين لا يهدمها ، فأبي ذلك عليهم ، فلازالوا يسألونه سنة سنة وهو يأبى عليهم ، حتى سألوا شهراً واحداً ، فأبى عليهم .
قال ابن هشام : وإنما يريدون بذلك فيما يظهرون أن يسلموا بتركها من سفهائهم ، ونسائهم وذراريهم ، ويكونون أن يروعوا قومهم بهدمها حتى يدخلهم الاسلام ، فأبى رسول الله صلى الله عليه وسلم إلا أن يبعث أبا سفيان بن حرب والمغيرة بن شعبة فيهدماها ،فلما أخذ المغيرة يضربها بالمعول ، خرج نساء ثقيف حسراً يبكين عليها ويقلن :
لتُبْكينَّ دُفَّاع أسْملها الرُّضَّاع
لمْ يُحْسِنُوا المِصَاع
يردن بذلك : واحسرتا عن التي كانت تدفع عنا أعداءنا ، وتدفع عنا البلاد ، قد أسلمها اللئام للهدم ،فلم يدافعوا عنها ، ولم يجالدوا بالسيوف في سبيلها .
وثالثها " العزى " كانت عن يمين المسافر من مكة إلى العراق ، وكانت قريش تخصها بالإعظام ، فلما نزل القرآن يندد بها وبغيرها من الأصنام ، أشتد ذلك على قريش ،ولما مرض أبو أحيحة وهو سعيد بن العاص بن أمية بن عبد شمس بن عبد مناف مرضه الذي مات فيه ، دخل عليه أبو لهب يعوده ، فوجده يبكي ، فقال : ما يبكيك يا أبا أحيحة ؟ أمن الموت تبكي ولا بد منه ؟ قال : لا ، ولكني أخاف ألا تعبد العزى بعدي ! قال أبولهب : والله ما عبدت في حياتك لأجلك ، ولا تترك عبادتها بعدك لموتك ، فقال أبو أحيحة : الآن علمت أن لي خليفة ! .. وأعجبه شدة نصبه في عبادتها .
فلما كان عام الفتح دعا النبي صلى الله عليه وسلم خالد بن الوليد ، وأمره أن ينطلق بهدمها ، فلما جاءه خالد، قال سادنها دينبة بن حرمي الشيباني :
أعُزاء شدِّي شدة لا تكذبي على خالد القي الخمار وشمري
فانك إلا تقتلي اليوم خالدا تبوئي بذلٍّ عاجل وتنصرَّي
فقال خالد :
يا عُّزَّ كُفْرانك لا غفرانك اني رأيت الله قد أهانك
وقد زعموا أنها كانت حبشية ، ناقشة شعرها ، واضعة يدها على عاتقها في داخل شجرة كان قد قطعها خالد ، فبرزت له بهذا الشكل، فضربها ففلق رأسها ، فاذا هي حممة ( أي كالفحم ) والسام: " تلك العزى ، ولا عزى بعدها للعرب، أم إنها لن تعبد بعد اليوم ". تلك هي اشهر أصنام العرب في الجاهلية ، وهي التي ذكرها القرآن الكريم بقوله: ( أفَرَأيْتُمْ اللاتَ وَالعُزَّى وَمَنَاةَ الثَّالِثَة الأخْرَى ) [ النجم ؟ 19ـ 20 ] .
ولما دخل رسول الله صلى الله عليه وسلم البيت الحرام يوم فتح مكة ، رأى صور الملائكة وغيرهم ، فرأى إبراهيم عليه السلام مصوراً في يده الأزلام يستقسم بها ، فقال : "قاتلهم الله جعلوا شيخنا يستقسم بالأزلام ، ما شأن إبراهيم والأزلام ؟ " ( مَا كانَ إبْرَاهيمُ يَهُودِياً وَلا نَصْرَانِياً ، وَلكنْ كَانَ حَنِيفاً مُسْلِماً ، وَمَا كَانَ مِنَ المُشْركينَ ) [ آل عمران :68 ] ثم أمر بتلك الصور كلها ، فطمست .
قال ابن عباس : دخل رسول الله مكة يوم الفتح على راحلته ، فطاف عليها ، وحول البيت أصنام مشدودة بالرصاص ، فجعل النبي صلى الله عليه وسلم يشير بقضيب في يده إلى الأصنام ويقول : (جَاءَ الحَقُّ وَزَهَقَ البَاطِل إنَّ البَاطِلَ كَانَ زَهُوقَاً ) [ الاسراء : 81 ] فما أشار إلى صنم منها في وجه إلا وقع لقفاه ، ولا أشار إلى قفاه إلا وقع لوجهه ، حتى كانت أصنام جزيرة العرب كلها قد سقطت عن عروشها ، وكفر بها عبادها ، وأصبح من كان يعبدها بالامس يخجل من تفاهه رأيه إذا كان يعبد حجراً لا يضر لا ينفع ولا يغني عن حوادث الدهر شيئاً .
لقد قامت رسالة الإسلام أول ما قامت على التشهير بهذه الأصنام الآلهة ، والتشنيع على عبادتها والدعوة إلى دين الفطرة : عبادة الله خالق الكون ورب العالمين ، وقامت جزيرة العرب وفي مقدمتها قريش هذه الدعوة ، ورأت فيها عجباً عجاباً ( أَجَعَل َالآلِهَةَ إلهاً وَاحِداً إنَّ هَذَا لشَيءُّعُجَاب ) [ ص :5 ] .
وماجت جزيرة العرب واضطربت لهذا الدين الجديد ، وحاولت وأده والقضاء على رسوله بكل وسيلة ، ولكن النصر كان أخيراً لرسول الله صلى الله عليه وسلم بعد نضال استمر إحدى وعشرين سنة . فافتتح عاصمة الوثنية ، وحطم آلهتها ، وهزم جيوشها ، وتغلب على مؤامرات زعمائها ، هل يصدق العقل أن ذلك كله قد تم خلال هذه الفترة القصيرة ، ( وَمَا رَمَيتَ إِذْ رَمَيْتَ وَلكِنَّ اللهَ رَمَى ) [ الانفال : 17] .
لقد أنهى محمد بن عبدالله مأساة العرب الفكرية التي استمرت زهاء خمسمائة عام أو تزيد ، وحرر العقل العربي في أغلال الوثنية وخرافاتها ، وأنقذ الكرامة العربية من مهانة الوثنية وحقارتها ، وفتح أبواب الخلود للعرب يدخلون منه ثم لا يخرجون ، ولقد صدق رسول الله صلى الله عليه وسلم حين قال : " لاعزى بعدها للعرب ، إما إنها لن تعبد بعد اليوم " فقد ودعت جزيرة العرب حياة الوثنية إلى الأبد ، وبلغ العقل العربي سن الرشد ، فلم يعد يرضى بعودته إلى طفولته : طفولة الوثنية التي تحمل صاحبها على أن يضع جبهته عن أقدام حجارة صماء بكماء ، ولقد قامت بعد وفاة الرسول صلى الله عليه وسلم حروب وفتن ، وادعى النبوة من ادعاها ، وعارض القرآن من عارضة ، ولكنا لم نسمع أن عربياً وأحداً فكر في العودة إلى الوثنية وآلهتها ، ذلك أن الراشد لن يعود طفلاً ، و كل ذلك إنما تم بفضل محمد صلى الله عليه وسلم ورسالته ، فله على كل عربي إلى انتهاء الدنيا فضل الإنقاذ والتحرير ، ثم فضل زيادة الهدى لشعوب الأرض من اتبع الهدى ومن أعرض عنه ، وجل الله حين يقول (هُوَ الذِي بَعَثَ فِي الأمِّيينَ رَسُولاً مِّنْهُمْ يَتْلُو عَليْهِمْ آيَاتِهِ ، وَيُزَكِّيهِمْ ، وَيُعَلِّمُهُمُ الكِتَابَ وَالحِكْمَةِ ، وَإن كَانُوا مِنْ قَبْلُ لفِي ضَلالٍ مُبين ) . [ الجمعة : ] .
ج- غزوة تبوك
وأهم ما في هذه الغزوة من عبر ودروس
هو ما نوجز الكلام عنه
أولاً ـ كان سبب هذه الغزوة أن الروم قد جمعت جموعاً كثيرة بالشام وأن هرقل قد رزق أصحابه سنة ،وأنضمت اليه من القبائل العربية لخم ، جذاع ، وغسان ، وعامل ، ثم قدموا طلائعهم إلى البلقاء ـ كور من أعمال دمشق بين الشام ووادي القرى ، فلما بلغ ذلك رسول الله صلى الله عليه وسلم ، ندب الناس للخروج إلى تبوك ، ودعاهم إلى التأهب والاستعداد ، ودعا الاغنياء إلى البذل والإنفاق .
وهذا يفسر لنا طبيعة الحرب في الإسلام ، فهي ليست عدوانية ، لا استفزازية ، ولكنها للدفاع عن الدين والبلاد ، وردع المعتدين ، ومنهم عن الأذى والفساد ، وهذا ما سحرت به آيات كثيرة من القرآن الكريم ، وقد تكلمنا عن أسباب مشروعية الحرب في الاسلام ، وأهدافه ، وطريقه ، في مذكرات السنة الأولى . وفي خروج رسول الله إلى تبوك بعد تأهب الروم وجمعهم للجموع تأييد لما قلناه هناك . وفي انضمام بعض القبائل العربية إلى الروم ضد المسلمين ، دليل عن أن الإسلام ورسالته التحريرية للناس عامة وللعرب خاصة ، ولو كانوا يعلمون ذلك لأبوا أن يكونوا أعواناً للروم على أبناء قومهم من العرب المسلمين .
ثانياً ـ لقد كانت دعوة الرسول صلى الله عليه وسلم للتأهب في وقت عسر وحر وموسم لجني الثمار، فأما المؤمنون الصادقون ،فقد سارعوا إلى تلبيتهم للرسول غير عابئين بمشقة ولا حرمان ، وأما المنافقون، فقد تخلفوا ، واخذوا يعتذرون بشتى الأعذار، وهكذا يتبين المخلصون من المنافقين في أيام الشدائد ، وينكشف أمر الأدعياء في أيام الشدائد ، و في أيام المحن ، وقد قال الله تعال : " آلم . أحَسِبَ النَّاسُ أنْ يُتْرَكُوا أنْ يَقُولوا آمَنَّا وَهُمْ لا يُفْتَنُونَ ، وَلَقَدْ فَتَنَّا الذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ ، فَليَعْلمَنَّ اللهُ الذِينَ صَدَقُوا وَليَعْلمَنَّ الكَاذِبِينَ )[ العنكبوت : 1ـ2 ] .
وإنما تقوم الدعوات ، و تنهض الأمم بتطهير صفوفها من المنافقين والمخادعين ولا يثبت للشدة إلا كل صادقة العزيمة ، مخلص النية ، ثابت المبدأ ، كثيراً ما عوق الضعاف والمخادعون سير دعوات الاصلاح في الأمة ، وحالوا بينها وبين النصر ، أو أخروها ولو إلى حين ، ولقد تلخص جيش العسرة في غزوة تبوك من أمثال هؤلاء بفضل افتضاح أمرهم ، وانكشاف ضعف إيمانهم ، وخور عزائمهم ، وإن جيشاً متراض الصف ، متحد الكلمة ، صادق العهد ، أجدى للأمة ـ ولو كان قليل العدد ـ وأدعى الاكتساب النصر من جيش كثير العدد ، متفاوت الفكرة والقوة والثبات " كم مِّنْ فِئَةٍ قَليِلةٍ غَلبَتْ فِئَةً كثِيرَةً بِإذْنِ اللهِ ، واللهُ مَعَ الصَّابِرينَ " [ البقرة:249 ].
ثالثاً ـ أن في مسارعة الموسرين من الصحابة إلى البذل والإنفاق ، كأبي بكر، وعمر ، وعثمان ، وغيرهم ، دليلاً على ما يفعله الإيمان في نفوس المؤمنين من مسارعة إلى فعل الخير ومقاومة لأهواء النفس وغرائزها ، مما تحتاج إليه كل أمة ، وكل دعوة ، لضمان النصر على أعدائها ، وتأمين الموارد اللازمة لها وهذا ما نجد أمتنا اليوم أشد الحاجة إليه ، فالأعداء كثر ، والاعباء ثقيلة ، والمعركة رهيبة ، والعدو قوي ماكر ، فلا نستطيع التغلب عليه إلا بمزيد من التضحيات في الأموال والأنفس والأهواء والشهوات ولا يحق ذلك إلا الدين الصحيح المفهوم على حقيقته الذي يربي النفوس على احتساب الأنفاق والتعب في سبيل الأمة جهاداً يثيب الله عليه كما يثب المجاهدين في ميادين النضال .
وخير ما يفعله المصالحون وزعماء النهضات ، هو غرس الدين في نفوس الناس غرساً كريماً ، ولكن مقاومة للدين ، أو دعوة إلى التحرر منه ، أو تظاهر بالاستخفاف من شأنه جريمة وطنية تؤدي إلى أسوأ النتائج ، واخطر الآثار ، كذلك علمنا الله ، وكذلك أثبت لنا التاريخ في الماضي ، وأثبتت التجربة في الحاضر ، وكل إنكار لهذه الحقيقة مغالطة لا يلجاً إليها إلا الذين لم يتلخص للحق نفوسهم ، ولم تتفتح للخير أفئدتهم ، ولم تتحلى بالسمو والنبل طباعهم .
رابعاً ـ وفي قصة الذين جاؤوا إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم يطلبون أن يأخذهم معه إلى الجهاد ، فردهم لأنه صلى الله عليه وسلم ما يجد ما يحملهم عليه . فولوا وأعينهم تفيض من الدمع حزناً على حرمانهم من شرف الجهاد مع رسول الله صلى الله عليه وسلم ، في هذه القصة التي حكاها الله في كتابه أروع الأمثلة على صنع الإيمان للمعجزات ، فطبيعة الإنسان أن يفرح لنجاته من الأخطار ، وابتعاده عن الحروب ، ولكن هؤلاء المؤمنين الصادقين بكوا من أجل ذلك ، إذا اعتبروا أنفسهم قد فاتهم حظ كبير ..وأي خسارة تلحق بالامة حين تخلو من أمثال هؤلاء ؟
خامساً ـ وفي قصة الثلاثة الذين تخلفوا عن الجهاد إيثاراً للراحة على التعب ، والظل على الحر ، والإقامة على السفر ، من أنهم مؤمنون صادقون ، درس اجتماعي من أعظم الدروس ، فقد استيقظ الإيمان في نفوسهم بعد قليل ، فعلموا أنهم ارتكبوا بتخلفهم عن رسول الله والمؤمنين إثماً كبيراً ، ومع هذا فلم يعفهم ذلك من العقوبة ، وكانت عقوبتهم قاسية رادعة ، فقد عزلوا عن المجتمع عزلاً تاماً، و نهي الناس –حتى زوجاتهم- عن كلامهم والتحدث إليهم ، ولما علم الله منهم صدق التوبة ، وبلغ منهم الندم والألم والحسرة مداه ، تاب الله عليهم ، فلما بشروا بذلك كانت فرحتهم لا تقدر ، حتى أنسلخ بعضهم عن ماله وثيابه شكراً لله على نعمة الرضى والغفران
إن مثل هذا الدروس تمنع المؤمن الصادق في إيمانه عن أن يتخلف عن عمل يقتضيه الواجب أو يرضى لنفسه بالراحة والناس يتعبون ، و يبتئسون ، وتلك هي طبيعة الإيمان : أن تشعر دائماً وأبداً أنك فرد من جماعة ، و جزء من كل ، وأن ما يصيب الجماعة يصيبك ، وما يفيدها يفيدك ، وأن النعيم لا معنى له من شقاء الأمة و بؤسها ، والراحة لا لذة لها مع تعب الناس وعنائهم ، وأن التخلف عن الواجب نقص في الإيمان ، وخلل في الدين ، وإثم لا بد فيه من التوبة والانابة . كما تعطينا القصة درساً بأن العقيدة فوق القرابة، وأن تنفيذ النظام المشروع مقدم على طاعة الهوى والعاطفة، وأن القرابة لا تغني شيئاً إزاء غضب الله ومقته( فَلْيَحْذَرالذِينَ يُخَالِفُونَ عَنْ أمْرِهِ أنْ تُصِيبَهُمْ فِتْنَةٌ أوْ يُصِيبَهُمْ عَذَابٌ ألِيمٌ ) [ النور :63 ] .
د ـ حجة الوداع
كانت حجة الوداع هي الحجة الوحيدة التي أداها رسول الله صلى الله عليه وسلم في تلك السنة ، توافدالناس إلى الحج من مختلف أنحاء الجزيرة العربية حتى بلغوا ـ كما قال بعض المؤرخين ـ مائة وأربعة عشر ألفاً ، ونحسب أن هذا العدد تقديري ، وإلا فكيف أمكن إحصاؤهم وتحديد عددهم بهذا القدر ؟
وقد خطب رسول الله صلى الله عليه وسلم خطبته الشهيرة التي يجب أن يحفظها كل طالب علم ، لما تضمنته من إعلان المبادئ العامة للاسلام ، وهي آخر خطبه صلى الله عليه وسلم ، وقد جاء فيها : " أيها الناس ، اسمعوا قولي ، لا أدري لعلي لا ألقاكم بعد عامي هذا بهذا الموقف أبداً " - وهذا من معجزات رسوله صلى الله عليه وسلم - أيها الناس ، إن دمائكم وأموالكم عليكم حرام إلى أن تلقوا ربكم كحرمة يومكم هذا ، وحرمة شهركم هذا ، و إنكم ستلقون ربكم فيسألكم عن أعمالكم ، وقد بلغت ، فمن كانت عنده أمانة فليؤدها إلى من ائتمنه عليها ، وإن كل رباً موضوع ، ولكن لكم رؤوس أموالكم لا تظلمون ولا تظلمون ، قضى الله أنه لا ربا ، وإن ربا عباس بن عبد المطلب موضوع كله ، وإن كل دم في الجاهلية موضوع ، وإن أول دمائكم أضع دم ابن ربيعة بن الحارث بن عبد المطلب ـ وكان مسترضعا في بني ليث فقتلته هذيل ـ فهو أول ما أبدأ به من دماء الجاهلية .
أما بعد أيها الناس ، فإن الشيطان قد يئس من أن يعبد بأرضكم هذه أبداً ، ولكنه إن يطع فيها سوى ذلك فقد رضي به مما تحقرون من أعمالكم ، فاحذورا على دينكم .
أيها الناس إن النسيء زيادة في الكفر ، يضل به الذين كفورا يحلونه عاماً ، ويحرمونه عاماً ، ليواطئوا عدة ما حرم الله ، فيحلوا ما حرم الله ، ويحرموا ما أحل الله ، وإن الزمان قد استدار كهيئته يوم خلق الله السماوات والأرض ، وإن عدة الشهور عند الله اثنا عشر شهراً ، منها أربعة حرم : ثلاثة متوالية ، ورجب مضر الذي بين جمادي وشعبان . أما بعد أيها الناس فإن لكم على نسائكم حقاً ، ولهن علكيم حقاً لكم عليهن أن لا يوطئن فرشكم أحداً تكرهونه ، وعليهن أن لا يأتين بفاحشة مبنية ، فإن فعلن فإن الله قد أذن لكم أن تهجروهن في المضاجع وتضربوهن ضربا غير مبرح ، فإن انتهين فلهن رزقهن وكسوتهن بالمعروف ، واستوصوا بالنساء خيراً ، فإنهن عندكم عوان ، لا يملكن لأنفسهن شيئا ، وإنكم إنما أخذتموهن بأمانة الله ، واستحللتم فروجهن بكلمات الله .
فاعقلوا أيها الناس قولي ، فإني قد بلغت ، وقد تركت فيكم ما إن اعتصمتم به ، فلن تضلوا أبداً ، أمراً بيناً ، كتاب الله وسنة نبيه ، أيها الناس أسمعوا قولي وأعقلوه ، تعلموا أن كل مسلم أخ للمسلم ، وأن المسلمين إخوة ، فلا يحل لامرئ من أخيه إلا ما أعطاه عن طيب نفس منه ، فلا تظلموا أنفسكم ، اللهم هل بلغت ؟ " .
إن أول ما يلفت النظر فى حجة الوداع هذا الجمهور الضخم الذين حضروا مع الرسول صلى الله عليه وسلم من مختلف أنحاء الجزيرة العربية ، مؤمنين به ، مصدقين برسالته ، مطيعين لأمره ، وقد كانوا جميعاً قبل ثلاثة وعشرين سنة فحسب على الوثنية والشرك ، ينكرون مبادئ رسالته ، ويعجبون من دعوته إلى التوحيد ، وينفرون من تنديده بآبائهم الوثنيين ، وتسفيهه لاحلامهم ، بل كان كثير منهم قد ناصبوه العداء ، وتربصوا به الشر ، وبيتوا على قتله ، وألبوا عليه الجموع ، وجالدوه بالسيوف والرماح ، كيف تم هذا الانقلاب العجيب في مثل هذه المدة القصيرة ، وكيف استطاع صلى الله عليه وسلم أن يحول هذه الجموع من وثنيتها وجاهليتها وترديها وتفرقها إلى توحيد الله ووحدة الهدف والغاية ؟ وكيف كسب حب هذه القلوب بعد عداوتها ، وهي المعروفة بشدة الشكيمة وعنف الخصام ؟ ألا إن إنساناً مهما بلغت عبقريته ودهاؤه ، وقوة شخصيته ليستحيل أن يصل إلى هذا في مئات السنين ، وما سمعنا بهذا في الأولين والآخرين ، إن هو إلا صدق الرسالة ، وتأييد السماء ، ونصرة الله، ومعجزة الدين الشامل الكامل الذي أتم الله به نعمته على عباده ، وختم به رسالاته للناس ، وأراد أن ينهي به شقاء أمة كانت تائهة في دروب الحياة ، مستذلة للأهواء والعصبيات ، وأن يدلها على طريق الهداية ، ويفتح أعينها لأشعة الشمس ، ويقلدها قيادة الأمم ، ويحول بها مجرى التاريخ ، ويحمي بها مهانة الإنسان ، ويورثها الحكمة والكتاب هدى وذكرى لأولي الألباب .
مائة وأربعة عشر ألفاً كانوا له مكذبين ، أصحبوا له مصدقين ، وكانوا محاربين ، فأصبحوا له مذعنين ، وكانوا له مبغضين ، فأصبحوا له محبين ، وكان عليه متمردين ، فأصبحوا له طائعين ، كل ذلك في ثلاث وعشرين من السنين .. ذلك هو صنع الله الحق المبين ، فتعالى الله عما يشركون ، وتنزهت ذات رسوله عما يقول الملحدون ، وسبحان ربك رب العزة عما يصفون ، وسلام على المرسلين ، والحمد لله رب العالمين .
وثاني ما يلفت النظر في حجة الوداع هذا الخطاب القوي المحكم الذي خاطب به رسول صلى الله عليه وسلم الناس أجمعين ، وتلك المبادئ التي أعلنها بعد إتمام رسالته ونجاح قيادته ، مؤكدة للمبادئ التي أعلنها في أول دعوته ، يوم كان وحيداً مضطهداً ، ويوم كان قليلاً مستضعفاً ، مبادئ ثابتة لم تتغير في القلة والكثيرة ، والحرب والسلم ، والهزيمة والنصر ، وإعراض الدنيا وإقبالها ، وقوة الأعداء وضعفهم ، بينما عرفنا في زعماء الدنيا تقلباً في العقيدة والمبدأ ، وتبايناً في الضعف والقوة ، وتغيراً في الوسائل والأهداف ، يظهرون خلاف ما يبطنون ، وينادون بغير ما يعتقدون ، ويلبسون في الضعف لبس الرهبان ، وفي القوة جلود الذئاب ، وما ذلك إلا لأن هؤلاء رسل المصلحة ، وأولئك رسل الله وشتان بين من يحوم فوق الجيف ، وبين من يسبح في بحار النور ، شتان بين أولياء الشيطان وأولياء الرحمن ( اللهُ وَلِيُّ الذِينَ آمَنُوا يُخْرِجُهُمْ مِنَ الظُّلمَاتِ إلى النُّورِ وَالذِينَ كَفَرُوا أوْلِيَاؤُهُمْ الطَّاغُوتُ يُخْرِجُوَنَهُمْ مِنَ النُّورِإلى الظُّلمَاتِ أوْلئِكَ أصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ ) [ البقرة : 257]
هـ - بعث أسامة
إن أخر ما فعله رسول الله صلى الله عليه وسلم لنشر الدعوة وحمايتها ، ورد غارة المعتدين على الدولة الجديدة والمتربصين بها أن جهز جيشاً إلى الشام تحت قيادة أسامة بن زيد وأمره أن يوطئ الخيل تخوم البلقاء والداروم من أرض فلسطين ، وقد كان في هذا الجيش جميع المهاجرين والأنصار، ومن كان حول المدينة من المسلمين ، لم يتخلف منهم أحد ، لما كان الجيش في ظاهر المدينة يتأهب للمسير ابتدأ مرض رسول الله صلى الله عليه وسلم الذي توفي فيه ، فتوقف الجيش عن السير انتظاراً لشفاء الرسول ، ورغبة في تلقي تعاليمه وهدية ، ولكن رسول الله صلى الله عليه وسلم توفي بعد أيام ، واختاره الله إلى جواره بعد أن أدى الأمانة وبلغ الرسالة ، وهيأ جزيرة العرب كلها لحمل لواء الاسلام ، ونشر حضارته وتعاليمه في أنحاء الأرض ، وبعد أن تكون الجيش الذي يقوم بحمل أعباء هذه الأمانة العظيمة الأثر في التاريخ ، بعد أن تهيأ جنوده الصالحون لخوض معاركها ، والقادة الأكفاء لقيادة حروبها ، والرجال العظماء الصالحون لادارة دولتها ، فصلى الله وسلم على رسوله ، وجزاه الله عنا وعن الإنسانية خير الجزاء ، فلولاه ولولا جنوده الأوفياء الذين أدوا الأمانة من بعده لكنا الآن في ضلال مبين .
لقد أكرم الله رسوله بما لم يكرم نبياً من قبله ، إذا طالت حياته حتى رأى ثمرة دعوته وكفاحه تلف الجزيرة كلها، فتطهرها من الأوثان تطهيراً أبدياً ، وتجعل الذين حطموا هذه الأصنام بأيديهم فرحين بنعمة الله في أنقاذهم من الضلال ، هم الذين عبدوها من قبل ، وعفروا لها وجوههم بالسجود لها ، وطلب الزلفى عندها ، ثم تجعل هؤلاء مستعدين تمام الاستعداد للانسياح في الأرض ، يحملون إلى الناس نور الهداية التي أنعم الله عليهم بها ، إنه جيل واحد في الذين كان يعبد الأصنام ويؤلهها ويعش في جاهليته هملاً مبعثراً ا لكفاءات والمواهب ، ثم هو الذي حطم الأوثان ، وأقام الدولة العربية الاولى في تاريخ العرب كله ، التي تحمل رسالة وتحدد هدفاً ، وتقف من أقوى أمم الأرض حولها موقف المعلم المنقذ ،والرائد المعتز بما يحمل من هدى ونور وخير المشفق على ما كانت تتردى فيه الأمم من جهالة وظلام وانحلال ، بينما كان العرب ينظرون اليها قبل الاسلام نظر الإكباروالإعظام ، ويقفون منها موقف التبعية السياسية والفكرية الاجتماعية ، إنه حدث فريد في التاريخ قديمة وحديثه ، وليس بعث أسامه إلا عنوان هذا الحدث ونتائج هذه الرسالة الميمونة المباركة . ثم يتجلى من جعل رسول الله الحدث ونتائج هذه الرسالة الميمونة المباركة .
قيادة الجيش لأسامة بن زيد و هو شاب في سن العشرين وتحت لوائه شيوخ المهاجرين والأنصار ، كأبي بكر ، وعمر ، وعثمان ، وعلي ، وهم من هم في سبقهم إلى الإسلام ، وحسن بلائهم فيه ، وتقدمهم في السن والمكانة على أسامة ، إن في هذا سنة حميدة من سنن الإسلام في إلغاء الفوارق بين الناس من حيث السن والفضل وتقديم الكفء الصالح لها مهما يكن سنة ومكانته ، ثم في رضي هؤلاء العظماء الذين أثبت التاريخ انه لم ينجب مثلهم في عظمتهم وكفاءاتهم ، على أن يكونوا تحت إمرة أسامة الشاب ، ما يدل على مدى التهذيب النفسي والخلقي الذي وصلوا اليه بفضل رسول الله صلى الله عليه وسلم وهدايته وتربيته وإرشاده .
إن في تأمير أسامة على عمر وعثمان وعلي ، سابقة عظيمة لم تعهدها أمة من الأمم ، تدل على وجوب فسح المجال لكفاءات الشباب وعبقرياتهم ، وتمكينهم في قيادة الأمور حين يكونون صالحين لذلك ، وهذا درس عظيم لو بقي المسلمون يذكرونه من بعد لاختفت من تاريخ الإسلام محن وكوراث ، ومن تاريخ دولته عواصف وفتن زعزعت أركانها وأضعفت من قوتها ، فنعم ما فعل رسول الله صلى الله عليه وسلم المؤيد بوحي السماء الموهوب من الحكمة السداد ، و بعد النظر ، وعظيم السياسة ، مالم يوهب نبي قبله ، ولم يعرف عن عظيم في التاريخ من قبله ومن بعده ، ورضي الله عن أسامة الشاب ، وهنيئاً له ثقة رسول الله صلى الله عليه وسلم بكفاءة قيادته وصدق عزيمته ، وحسن إسلامة ، رضي الله عنه وجعله قدوة لشبابنا المؤمنين العاملين
و ـ وفاة رسول الله صلى الله عليه وسلم
توفي رسول الله صلى الله عليه وسلم بعد أن علم من طريق الوحي بقرب أجله ، فودع الناس في حجة الوداع ، وكانت قلوب الصحابة واجفة هلعة خشية أن يكون أجل رسول الله صلى الله عليه وسلم قد اقترب ، ولكن أجل الله إذا جاء لا يؤخر فلما أشيع عن وفاة الرسول صلى الله عليه وسلم اضطرب الصحابة جميعاً لهول الكارثة ، وزلزلت المدينة زلزالها ، وطاشت عقول كثيرة من كبار الصحابة والسابقين إلى الاسلام ،فمنهم من عقل لسانه ، ومنهم من أقعد عن الحركة ، ومنهم وهو عمر من شهرسيفه ينهى الناس أن يقولوا : إن رسول الله صلى الله عليه وسلم مات ، ويزعم أنه غاب ، وسيرجع اليهم ، ولكن أبا بكر وحده هو الذي كان ثابت الجأش ، فدخل على رسول الله صلى الله عليه وسلم هو مسجى على فراشه ، فقبله وقال له : بأبي أنت وأمي يارسول الله ! ما أطيبك حياً وميتاً ! أما الموتة التي كتب الله عليك فقد ذقتها ، ثم لن تصيبك بعدها موته أبداً ، يا رسول الله أذكرنا عند ربك .
ثم خرج أبو بكر إلى الناس ، فخطب فيهم وقال : أيها الناس ! من كان يعبد محمداً ، فإن محمداً قد مات ، ومن كان يعبد الله ، فإن الله حي لا يموت ، ثم تلا قوله تعالى : " وَمَا مُحَمَّدٌ إلا رَسُولٌ قَدْ خَلتْ مِنْ قَبْلِهِ الرُّسُلْ ، أفَإنْ مَاتَ أوْ قُتِلْ انْقَلبْتُمْ عَلى أعْقَابِكُمْ ، وَمَنْ يَنْقَلبْ عَلى عَقِبَيْهِ فَلنْ يَضُرَّ اللهَ شَيْئَاً ، وَسَيَجْزِي اللهُ الشَّاكِرِينَ ) [ آل عمران : 144] . فلما تلاها أبو بكر أفاقوا من هول الصدمة ، وكأنهم لم يسمعوها من قبل ، قال أبو هريرة : قال عمر : فوالله ما هو إلا أن سمعت أن أبا بكر تلاها فعقرت ـ أي دهشت وتحيرت ـ حتى وقعت إلى الأرض وما تحملتني رجلاي ، وعرفت أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قد مات .
وهنا درسان بالغان :
أولهما : أن الصحابة دهشوا لموت رسول الله عليه وسلم ، حتى لكأن الموت لا يمكن أن يأتيه ، مع أن الموت نهاية كل حي ، وما كان ذلك إلا لحبهم لرسول الله صلى الله عليه وسلم حباً أمتزج بدمائهم وأعصابهم ، والصدمة بفقد الأحباب تكون على قدر الحب ، ونحن نرى من يفقد ولداً أو أبا كيف يظل أياماً لا يصدق أنه فقده ، وأي حب في الدنيا يبلغ حب هؤلاء الصحابة الأبرار لرسول الله صلى الله عليه وسلم وقد هداهم الله به ، وانقذهم من الظلمات إلى النور ، وغير حياتهم ، وفتح عقولهم وأبصارهم ، وسما بهم إلى مراتب القادة العظماء ،ثم هو في حياته مربيهم وقاضيهم ومرشدهم يلجؤون إليه في النكبات ، ويسترشدونه في الحوادث ، ويأخذون منه خطاب الله لهم وتعليمه لهم ، فلما مات رسول الله صلى الله عليه وسلم أنقطع ذلك كله ، في صدمة أبلغ من هذه الصدمة وأشدها أثراً .
ثانيهما : أن موقف أبي بكر دل على أنه يتمتع برباطه جأش وقوة أعصاب عند النكبات لا يتمتع بها صحابي آخر . وهذا ما يجعله أولى الناس بخلاقة رسول الله صلى الله عليه وسلم ، وقد أثبت ذلك في حروب الردة في جزيرة العرب .